دير سانت كاترين .. في سياق المستجدات المتعلقة بدير القديسة كاترين بجبل سيناء، أصدرت بطريركية أورشليم بيانًا تناولت فيه أبعاد القضية وتفاصيل تطوراتها، مشددة على التزامها الراسخ بالحفاظ على الوحدة الكنسية وحماية الوضع القانوني والتاريخي للدير.
يأتي هذا البيان في ظل النقاش المستمر حول وضع الدير القانوني والإداري، حيث قامت البطريركية بتقديم عرض شامل للأحداث الجارية، مدعومًا بدراسة علمية معمقة أعدها البروفيسور فلاسيوس إيوانيس فيذاس، الأستاذ الفخري بجامعة أثينا، الذي تناول الجوانب التاريخية والقانونية التي تربط الدير بالبطريركية عبر العصور.

أزمة دير سانت كاترين
أفاد البيان أن سيادة المتروبوليت داميانوس، رئيس أساقفة فاران وجبل الطور ورئيس دير القديسة كاترين بجبل سيناء، قد وجه رسالة إلى غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك أورشليم، يطلب فيها تدخله للمساعدة في حل قضية الدير. وفي نص الرسالة عبّر عن ثقته في حكمته الرشيدة، قائلاً: “أنتم أبونا وبطريركنا الذي أكنّ له، كأسقف، كل الاحترام والمحبة والتقدير.”
وأوضحت البطريركية أنها استجابت بسرعة لهذا الطلب، حيث أعقب ذلك اتصال هاتفي تم على إثره إرسال لجنة ثلاثية تضم أبرز أعضاء أخوية القبر المقدس. تألفت اللجنة من المطران أريستارخوس، رئيس أساقفة قسطنطينة، والأرشمندريت جيرونيموس، وكيل القبر المقدس في اليونان، والأرشمندريت خريستوذولوس، أمين سر المجمع المقدس، بالإضافة إلى البروفيسور ثيودوروس يانغو، أستاذ القانون الكنسي. وقد تولّت اللجنة معالجة القضية بروح من الحكمة والأخوة.
تسريب رسالة مزعومة وإدانة رسمية:
انتظر الوفد البطريركي الأورشليمي لمدة ثلاثة أيام بصبر وتفانٍ حتى يتمكن المطران دميانوس من استقبالهم، وتم تحديد موعد اللقاء ليكون في السابع من أغسطس 2025 عند الساعة السابعة مساءً. وخلال الاجتماع، تبين لهم وجود رسالة مزعومة منسوبة إلى المطران دميانوس نُشرت في وسائل الإعلام، تحمل مضمونًا يتناقض تمامًا مع رسالته الأولى المتعلقة بالولاية الروحية لبطريركية أورشليم. وأوضحت البطريركية أنها لم تصدر هذه الرسالة مطلقًا، مؤكدة أنها مجرد افتراء لا يمت للحقيقة بأي صلة. وأضافت البطريركية أن هذه الرسالة الملفقة هدفها تقسيم وحدة الكنيسة والأمة، مشددة على أهمية تجاهل مثل هذه الشائعات والتمسك بالحوار البنّاء لتعزيز الفهم والتعاون.

وجاء في البيان: > “
إن البطريركية، ملتزمة بالمبادئ الكنسية الراسخة، ترفض الانجرار وراء أي جدل أو الرد على منشورات مشبوهة تهدف إلى النيل من هيبة المؤسسات المقدسة وزرع الفتنة بين أبناء الأرثوذكسية اليونانية. وتؤكد أن هذه المنشورات تكشف عن جهل بالقوانين الكنسية وبالحقوق الثابتة التي تمنح بطريركية أورشليم ولايتها القانونية المستحقة. وفي هذا السياق، أبدت اللجنة الثلاثية تجاهلها لما يُثار من شائعات، مركّزة جهودها على استمرار الحوار بروح المحبة المسيحية، حيث عقدت لقاءات تشاورية مع معاوني المطران داميانوس ومع السيد جورج كالانتزيس، الأمين العام لوزارة الشؤون الدينية وممثل الحكومة اليونانية. كما دعت المطران، كشخصية بارزة في مجال الرهبنة الأرثوذكسية، إلى حوار متزن بهدف حل الأزمة وتعزيز وحدة الكنيسة والأمة.

أجواء اللقاء والمشاورات الجانبية
أما أجواء اللقاء والمشاورات الجانبية، فقد شهدت اللجنة البطريركية اجتماعًا مع المتروبوليت داميانوس بعد انتظار دام ثلاثة أيام. الحوار اتسم بالروح المسيحية المحبة، وتمت خلاله مناقشات بناءة مع معاونيه ومع السيد جورج كالانتزيس. ودعت اللجنة المطران إلى العمل بروح المسؤولية التاريخية لحل الأزمة القائمة وضمان استقرار الكنيسة ووحدة صفوفها.
وفيما يتعلق بالعائق الأخير ضمن المفاوضات مع الحكومة المصرية، تفيد مصادر مطّلعة بأن ملف ملكية الأماكن المخصصة للعبادة في دير القديسة كاترين بجبل سيناء يشكل التحدي الأكبر أمام التوصل إلى اتفاق نهائي بين الطرفين. وقد تم تحقيق تقدم ملحوظ مؤخرًا عبر منح الدير وضعًا قانونيًا خاصًا يكفل حماية مقتنياته وتصنيفها كـ”مجموعة خاصة” في مصر. ومع ذلك، لا يزال موضوع الملكية محل نقاش مستمر، مع وجود تفاؤل بإمكانية الوصول إلى تسوية ترضي الأطراف المعنية.

خطوات المطران داميانوس الداخلية:
قام المتروبوليت داميانوس بخطوتين مهمتين في سياق التوترات المتعلقة بدير القديسة كاترين بجبل سيناء:
أولاً، وجه رسالة إلى بطريرك أورشليم، ثيوفيلوس، معترضًا على ما وصفه بـ”سوء الفهم الواضح” بشأن تصريحات الأخير حول ولاية البطريركية على الدير. أشار داميانوس إلى السجل التاريخي الصادر عن بطريركية القسطنطينية والذي ينص بوضوح على أن دير سيناء كان دائمًا مستقلًا ذاتيًا ولم يخضع لأي سلطة بطريركية، سواء كانت الإسكندرية أو أنطاكية أو أورشليم. كما أكد داميانوس أنه لم يطلب أبدًا تدخل بطريرك أورشليم ورفض استناد الرهبان المتمردين إليه، معتبرًا تدخل البطريركية تعديًا على استقلالية الدير.
ثانيًا، قام باستدعاء 14 راهبًا من أصل 15 ممن وقعوا على طلب عزله لإخضاعهم لتحقيق داخلي بتهم كنسية خطيرة تشمل التكتل الفئوي، عقد اجتماعات غير قانونية، التآمر ضد الرئيس الروحي للدير، اغتصاب صلاحياته، العصيان، والتمرد. أما الراهب الخامس عشر، بامفيلوس، فقد ترك الدير منذ سنوات وانتقل إلى أحد أديرة جبل آثوس.

التوضيح التاريخي حول الوضع القانوني لدير القديسة كاترين:
تشير الدراسات الأكاديمية، وأبرزها دراسة للبروفيسور فلاسيوس فيذاس، إلى الخصوصية القانونية لدير القديسة كاترين الذي تأسس في القرن السادس الميلادي خلال حكم الإمبراطور يوستينيانوس الكبير. هذا الدير يتمتع باستقلال ذاتي فريد، إذ أنشئ بأمر الإمبراطور وظل تحت رعايته مباشرة دون أي تبعية لبطريركية إقليمية. السجل التاريخي الصادر عن بطريركية القسطنطينية يؤكد هذه الاستقلالية المميزة عبر نص واضح يشدد على أن الدير مستقل وغير خاضع لأي بطريرك “حتى تدور الشمس في فلكها”.
الدراسة التي أُرفقت من قبل البطريركية تناولت بشكل مستفيض الأبعاد التاريخية والقانونية المرتبطة بالدير. تضمنت الدراسة، التي أعدها البروفيسور فلاسيوس إيوانيس فيذاس من جامعة أثينا، تحليلاً معمقًا وموسعًا حول دير القديسة كاترين في جبل سيناء وعلاقته ببطريركية القدس عبر التاريخ. وأبرزت الدراسة العلاقة غير المنفصمة بين الدير والبطريركية سواء خلال فترة الاحتلال الصليبي وفرض الهرمية اللاتينية (1099–1268)، أو خلال حكم المماليك في المنطقة (1268–1517)، مما يعكس تحديات وتطورات متعددة أثرت على وضع الدير القانوني والطائفي.

الاعتراف بالحقوق التاريخية الثابتة
في تلك الحقبة، تم الاعتراف بالحقوق التاريخية الثابتة، ليس فقط لبطريركية القدس وإنما أيضاً لدير جبل سيناء. ومع ذلك، واجهت الكنيسة الأرثوذكسية صعوبات مستمرة بسبب الضغوط الاقتصادية والاضطهادات المتكررة، مما أعاق اكتمال تطورها ونمو هيكليتها الكنسية القانونية داخل البطريركية. كان الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الأول (527–565) قد رسّخ مسبقاً استقلالية دير جبل سيناء وسيادته الكاملة، إلى جانب حصانة أماكنه المقدسة، كما عمّم ذلك ليشمل جميع المواقع المقدسة ضمن نطاق بطريركية القدس، التي تضم فلسطين وجبل سيناء والأردن.
الوضع القائم للأماكن المقدسة
لكن القرن العشرين شهد واقعاً جديداً فرضته الحربان العالميتان (1914–1918 و1939–1945)، حيث باتت الحاجة ملحّة للحفاظ على الوضع القائم (Status quo) المقرر بموجب معاهدة باريس (1856)، التي أكّدت على الحماية الدولية للأماكن المقدسة التابعة لبطريركية القدس ودير جبل سيناء. هذا المبدأ جرى تثبيته أيضاً بموجب المادة 63 من معاهدة برلين التكميلية (1878)، التي نصّت بوضوح على عدم المساس بالوضع القائم للأماكن المقدسة كما حُدد عقب حرب القرم (1853–1856) ومعاهدة باريس.
وظل هذا النظام قائماً بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أعادت “عصبة الأمم” المصادقة عليه عام 1925. وحتى بعد الحرب العالمية الثانية وإنشاء دولة إسرائيل عام 1948، حافظ هذا النظام على وجوده بالرغم من التحديات القانونية والضغوط التي مارستها بعض الجهات العربية المعارضة لرسالة البطريركية في دعم الحجّ المسيحي.
هذه الضغوط استدعت تغييراً في اللوائح المنظمة لعمل المزارات المقدسة لضمان استمراريتها وتنظيم سيرها الداخلي. وكانت هذه التحديات محور المفاوضات بين بطريركية القدس والحكومة الأردنية، التي توصلت في النهاية إلى صياغة لوائح قانونية جديدة تضمن الحقوق الدولية للبطريركية وأخوية القبر المقدس.

دير جبل سيناء يتميز بموقعه الفريد
ارتباطه العميق مع بطريركية القدس وسائر البطريركيات الأرثوذكسية الشرقية، حيث تسير علاقاته ضمن تنسيق دائم مع البطريركية المسكونية. هذا التنسيق يهدف بالأساس إلى الحفاظ على قانونية الإجراءات، منع أي مطالب غير مشروعة من الرهبان المنتسبين للدير، وضمان استمرار تقاليدهم، ومنها جولات جمع التبرعات لدعم الدير. أهمية الدير تزداد بفضل اعتراف اليونسكو به في عام 2002 كموقع تراثي عالمي فريد، مما يكفل له الحماية بموجب القوانين الدولية والمعاهدات المتفق عليها عالميًا، مثل اتفاقيات جنيف وغيرها. علاوة على ذلك، مكانة الدير العلمية والأكاديمية تتعزز بما يحتويه من مخطوطات نادرة تُعدّ مصدرًا بالغ القيمة للحجاج والباحثين من كافة أرجاء العالم.
الاتفاقيات الدولية والقوانين
على هذا الأساس، تحرص الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية للدول المختصة على حماية قدسية دير جبل سيناء والمحافظة على رسالته التاريخية، ويُعتبر أي محاولة لتقويض دوره انتهاكًا للوضع القائم محليًا ودوليًا. القرارات التي تهدف إلى إقصاء أو إضعاف دير سيناء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تُناقض روح الاتفاقيات المعتمدة.
و بناءً عليه، فإن أي تدخل أحادي الجانب من قِبل الحكومة المصرية بشأن الدير يتنافى مع المعايير القانونية والكنسية، حيث تبقى مرجعية الدير ضمن صلاحيات بطريركية القدس والوضع القائم الخاص بالدير تحت إشراف البطريركية المسكونية حصريًا، دون أي امتداد لصلاحيات الحكومة المصرية أو بطريركية الإسكندرية بهذا الصدد.

وفد بطريركية أورشليم
في تطور لاحق، غادر وفد بطريركية أورشليم العاصمة أثينا متوجهًا إلى القاهرة ثم إلى سيناء بالطرق البرية، حيث يسعى لإجراء محادثات مباشرة مع رئيس الدير والرهبان، بهدف إيجاد حل للأزمة بروح المصالحة التي تدعو إليها الكنيسة. واختتمت البطريركية بيانها بالدعاء مستندةً إلى الإيمان بآية الكتاب المقدس: “والرجاء لا يخزي، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا” من رسالة رومية.
بطريركية أورشليم أكدت من جديد حرصها الراسخ على صيانة دير القديسة كاترين بجبل سيناء والحفاظ على مكانته التاريخية والروحية، في إطار احترام الوضع القائم المعتمد دوليًا وكنسيًا. موقفها يأتي ليعبر عن الارتباط المستمر بين الدير والبطريركية عبر الأجيال، وللتأكيد على تعاونها المستمر مع البطريركيات الأرثوذكسية الأخرى برعاية البطريركية المسكونية، بما يضمن لهذا الصرح الروحي العظيم الاستمرار في رسالته وإشعاعه للعالم بأسره.