هناك كلمات تُقال بعد الرحيل، فتصبح كأنها تُلقى في فراغ.. لا يسمعها من مات، ولا تُسمن من ندم.. ففي بلادنا، اعتدنا أن نُكرم الناس بعد أن يغادروا، نُرسل إليها باقات الورد بعدما تُغلق أعينهم، ونهتف بأسمائهم في صمت الجنازات، ونكتب عنهم مقالات رثاء، كان يمكن أن تكون رسائل حب تُدفئ قلوبهم وهم على قيد الحياة.
لماذا ننتظر حتى تنطفئ الشمعة لنقول "كانت تُضيء لنا الطريق"؟ لماذا لا نقول للناس الطيبين إنهم طيبون.. وللعظماء إنهم عظماء، وهم ما زالوا بيننا، يسمعون، ويتنفسون، ويبتسمون؟
اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، لا أكتبها في وداع، بل في امتنان، بمناسبة ذكرى ميلاده.
أكتب عن حسن حمدي.. الرمز، والقامة، والظل الهادئ الذي كان يحكم في صمت، ويُنجز دون ضجيج، ويقود دون أن يتقدم الصفوف، لأن حضوره دائمًا كان أبلغ من أي هتاف.
هو نموذج نادر في زمن بات فيه "المنصب" مغنمًا، و"الميكروفون" رغبة، و"الصورة" هدفًا.. لكنه اختار أن يكون خلف الصورة، وخلف القرار، وخلف الإنجاز.. لكنه كان دائمًا في قلب الأهلي.
حسن حمدي ليس مجرد رئيس نادٍ سابق، هو مدرسة إدارية تمشي على الأرض، وهو من جعلنا نؤمن أن الانتماء ليس شعارًا، بل "شُغلانة عمر"، كما نقول في مصر.
حين كان يتحدث، كنا نصغي.. وحين يصمت، كنا ننتبه أكثر. لم يكن بحاجة إلى صخب، لأنه كان "بيتكلم بهدوء… بس كلامه واصل".
تعلم صديقي القارئ، أنني لست منتميًا لا للأهلي ولا للزمالك.. لكني أكتب هنا ما يجول بخاطري وأدردش به معك في مقالي اليومي، لكني لا أرى حسن حمدي إلا بهدوءه المعهود، ونظراته الواثقة، وابتسامته التي لا تتغير.. فهو لا يطلب شيئًا، ولا يذكر أحدًا بماضيه. فقط يحضر.. وكأن حضوره في ذاته هو التكريم.
وأنا أكتب اليوم، لا أُجامل، ولا أُزايد. فقط أقول ما أشعر به، وما يشعر به كل من يعرف قيمة هذا الرجل.
نعم، نحن بحاجة أن نقول: "شكرًا يا كابتن حسن"، وأنت بيننا.
نحن بحاجة أن نُضيء الشموع في حضرة الرموز، لا على قبورهم.. نحن بحاجة أن نُغير ثقافة "الاعتراف بعد الوفاة"، إلى "الامتنان في الحياة".
فالناس الحلوة.. تستحق أن تسمع كلمات الحب وهي قادرة على الرد بـ "ابتسامة رضا".
في رأيي، لم يكن اسم حسن حمدي طارئًا على جدران القلعة الحمراء، بل نُقش منذ أن كان لاعبًا في صفوف الفريق الأول، قبل أن يتحول إلى أحد أعمدة الإدارة، ثم إلى رئيس نادٍ استثنائي، قاد الأهلي في واحدة من أزهى فتراته.
ففي عهده، لم يكن الأهلي ناديًا يُنافس على البطولات، بل صار مؤسسة رياضية متكاملة، تُحكمها القيم، وتُدار بالعقل، وتنتصر بالهدوء، وتُخطط بالمستقبل لا بالصدفة.
مدرسته في الإدارة كانت قائمة على الصمت لا الصخب، على الملفات لا الميكروفونات، على الإعداد لا الارتجال.. لم يكن يبحث عن اللقطة.. بل كان يصنع الصورة الكاملة.
في النهاية، في زمن اعتدنا فيه أن نقول "كان عظيمًا" بعد فوات الأوان، دعونا نقولها اليوم:
فلنُحب الكبار في حضورهم،
ولنُكرم الرموز وهم بيننا،
ولنُغير ثقافة الصمت حتى الرحيل..
فالامتنان حياة، والتقدير في وقته.. أبلغ من ألف رثاء.