
يُعتبرُ الذَّكَاءُ الاصْطناعيُّ آليّةً تواصليّةً جَديدةً تَهدفُ إلى محاكاةِ الذّكاءِ الإنسانيّ، يَستَنِدُ في ذلك إلى خوارزميات يَتمُّ تَطبيقُها في الفَضاءِ المعلوماتيّ. إنّه سلسلةٌ من عمليَّاتِ البرْمجةِ التي تَتمكّنُ من خلالها الآلَاتُ من القيَام بِمهامَ كثيرةٍ كَانَت تُوكَلُ قديماً إلى الإنْسانِ. يَشمَلُ ذلك سِجِلَّ الحركاتِ البسيطةِ التِي نَسْتعْملُهَا اليوْم بِشَكل آليٍّ في المنزلِ والسَّيَّارةِ والهاتفِ المحْمولِ وآلاتِ التحكّمِ عن بُعدٍ، أو نَستعملُها في أنْشطةٍ مُركّبةٍ تَقتَضِي بَرمجَةً عَالِيةَ الدقّةِ تَقُودُ إِلى صِياغةِ نُصُوصٍ اسْتنادًا إِلى كمٍّ هَائِلٍ من المعْطياتِ هي التِي تُغَذّيهَا وتتحَكَّمُ في تَنوِيعِ "سياقاتِ" تحقّقِها؛ فذاك هو الشَّرْطُ الضَّروريُّ لِلْحدِيثِ عن كِيَانٍ قَابِلٍ لِلْعزْلِ، كما هو الحالُ مع النّصوصِ الأدَبيّةِ.
الشَّات جبت chatgpt
ويُمثِّلُ الشَّات جبت chatgpt في هذا السِياقِ أرقَى النّماذج في تاريخِ الكتابَةِ القائمةِ على تَدبيرٍ افتراضيٍّ للخبرةِ الإنسانيّة. إنّه أداةٌ جديدةٌ في التّبادلِ الآليِّ مبنيّةٌ على وجودِ مصادرَ متنوعةٍ منها يَستمِدُّ أجوبتَهَ ورُدودَه. لذلك كانتِ اللّغة هي المادَّةَ المعْتمدَةَ عنده من أجلِ خلقِ حالةِ حوارٍ تفاعليٍّ بينه وبين مستعمِلِ الآلَةِ شبيهٍ بالحوارِ الواقعيِّ. إنّ اللّغة تَحضرُ فيه بِاعْتبارهَا مجموعةً من الـمَفاهيم المعزُولةِ، أو بِاعْتبارهَا سِياقَاتٍ مُسْتنْبتَةً بشكلٍ اصطناعيٍّ في ذَاكِرةٍ جَدِيدَةٍ هي ذَاكِرةُ الحاسوب. يتعلّقُ الأمرُ "بنَماذِجَ" مُوَجّهَةٍ إلى توْلِيدِ نُصُوصٍ مَخْصوصةٍ. إنّه بذلك قادرٌ على توليدِ مضامينَ تتميّزُ بقدرٍ من التّماسُكِ والانسجامِ.
المركبات المسكوكة
إنّ طاقتَه التّوليديّةَ والحواريّةَ كبيرةٌ جداً، فهو لا يَكتفي بالإجابَةِ عن أسئلةٍ تخُصّ راهناً أو ماضياً، بل يَستطيعُ أنْ يُحلّلَ ويتوقّعَ ما يُمكنُ أنْ يَحدُثَ استقبالاً. إنّه يتوفّرُ على نماذجَ جاهزةٍ مُتولّدةٍ عما يَتمّ تخزينُه في ذاكرةِ الآلةِ. وتتبلورُ هذه النَّماذجُ استناداً إلى وجودِ مَتْنٍ عريضٍ من النّصوصِ القبليّة تَتَضمَّنُ مفاهيمَ وصيغاً تعبيريّةً وصوراً بلاغيّةً جَاهِزة ومبادئَ ترْكيبيَّةً، ورُبما يتضمّنُ أيضاً بَعْض البناءاتِ النّصيَّةِ الجاهزةِ (ما يُطلَق عليهِ "المركّباتُ المسكوكةُ"). وتُعدُّ هذه البرْمجةُ الأسَاسَ الذِي يَعتمِدُه الذَّكَاءُ الاصْطناعيُّ من أَجْل تَقدِيم نَماذِجَ جَاهِزةٍ في الكتابةِ يُمْكِن أنْ يَستعِينَ بِهَا المستعملُ من أَجْل بناءِ قصائدَ لا تُنْسبُ إلى الشّاعرِ، بل إلى صوتٍ افتراضيٍّ قابلٍ لكلّ أشكالِ التّماهي. وبذلك لا يَكتبُ في حقيَقةِ الأمرِ شِعراً، إنّه يُرتّبُ الكلماتِ وَفق ما تَقتضيه رغباتُ "السائلِ"، إنّه يُلْغي بذلك الشّعرَ والشّاعرَ في الوقتِ ذاتِه.
محدودية الذكاء الاصطناعي وقدرته الإبداعية
وعند هذه النّقطةِ يتوقّفُ كلُّ شيءٍ، فقدرتُه التخزينيّةُ الهائلةُ هي ما يؤكّدُ في الوقتِ ذاتهِ محدوديّتَه من حيثُ القدرةُ الإبداعيّةُ، ومن حيثُ خصوصيّةُ فعلِ الإبداعِ اللّغويِّ ذاتِه، فهو في الأصلِ موجودٌ خارجَ "التّجربةِّ الشّعريّةِ"، فالذّاتُ القائلةُ في الشّعرِ لا تَكتَفي بصياغةِ حدودِ الانفعالِ في اللّغة، إنّها "تَعيشُه" ضمن "لحظةِ حالٍ" هي جوهرُ الشّعرِ وعَصبُه. إنّ "الجهازَ التِّقْنيَّ" لا يُمكنُ أنْ يَقولُ كُلَّ شَيْء عن حالاتِ النفْسِ، فهو عَاجِزٌ عن وَضْعِ الانْفعالِ في كَلِماتٍ تَلِجُ الحاسوبَ محمَّلةً بكلِّ طاقاتِهَا الدلاليّة. فَفي جميعِ حالاتِ الحوارِ الافتراضيِّ أو حالاتِ تَوليدِ نُصوصٍ في الشّعرِ أو القصّةِ سَتظَلُّ الانْفعالاتُ والأهْواءُ والرَّغباتُ والأحْلامُ خَارِج مُمكنَاتِ الخوارِزْمياتِ، وخارِج قُدْرتِهَا على صِياغةِ "كَلَامٍ" بِكْرٍ يُحيلُ على حُزْنٍ حَقيقِيٍّ أو فرحٍ حَقيقِيٍّ. فهذه الانفعالاتُ تكونُ، في سِيَاق الافْتراضيِّ دائماً، مُعدّلَةً ومُصفاةً ومُمَعْيرةً. إِنَّ البرْمجةَ تَنْزعُ عَنهَا كُلَّ ما يُخصِّصُ ويُحيلُ على ذَاتِيّةٍ مُتميِّزةٍ، إنّها ليستْ سوى محاكاةٍ مُصطنعةٍ لما سبَقَ أنْ تسلّلَ إلى الكلماتِ من تجربةٍ حقيقيّةٍ. إنّ المسافةَ بين الكلِمةِ وما تُسميهِ قصيرةٌ في الحاجة النّفعيّةِ، أما في الشّعرِ فممتدةٌ في الكَلمةِ ذاتِها.
القدرة على بناء نصوص إبداعية تضاهي ما يكتبه الإنسان
إِنَّ شَكْلَ البنَاءِ هذا وأسُسَه وَطَبيعَةَ اشتِغالِ عَناصِر تَكوّنِه هُما ما يُشكِّكُ مُنْذ البدايةِ في إِمْكانيَّةِ بِنَاءِ نُصُوصٍ إبداعيّةٍ تُضَاهي تِلْك التِي يُمْكِن أنْ يُنْتجَهَا كَائِنٌ كان يُسمَّى قديمًا شاعرًا أو رِوائيًّا. ذلك أنَّ الحاسوبَ يَضعُ بيْننَا وبيْن وَاقعِنا شاشاتٍ هي التِي تَقُوم بِغرْبلَةِ انْفعالاتِنا، إنّها تَتَصرَّفُ في مُجمَلِ أهْوائِنا التِي تَتَأبَّى في الغالبِ على النَّمْذجةِ والتّمثيلِ الكلّيِّ. إنّ النُّقْصانَ سِمةٌ رئيسةٌ في السُّلوكِ الإنسانيّ، ما يُصنَّفُ ضِمْن التَّرَدُّدِ والحيْرةِ والشَّكِّ والقَلقِ، أيْ ضمن كُلِّ ما يُمْكِن أنْ يُحيلَ على اللّامُتوقّع والتكهّنِ بكلّ أشكالِ تحقُقِه. إنّ الحاسوبَ قطعيٌّ في أحكامِه، إنّه لا يُنَسّبُ القولَ أو يُنوِّعُ من شكلِ حُضورِ قائلِه. أمّا الشّعرُ فرؤيا، إنّه ليس معنيّاً بالأحكامِ، إنّه "جوابٌ عن الكينونةِ"(هايدغر)، وبذلك يَتحدّثُ عن زمنيّةٍ أخرى غير تلكَ التي تُعاشُ في المألوفِ، إنّه أَرحَبُ وأوْسعُ من مُمكنَات الاحْتمالِ الافْتراضيِّ.
ضياع الكتلة الإنفعالية
إنَّ ضَيَاعَ "الكُتلةِ" الانْفعاليَّةِ وانتشارَها في دَوالِيبِ الافْتراضيِّ، يُعدّانِ دلالةً على انْفصالِنا عَما يُشكِّل هذه الانْفعالاتِ ذاتِهَا. فالخزّانُ الآليُّ يَضعُ للتّداولِ "كمّاً" هائلاً من الانفعالاتِ الجاهِزَةِ، إنَّه يَضعُها للتّسويقِ والاستعمالاتِ العامّةِ خارجَ حالاتٍ مخصوصةٍ للتلفّظِ. إنّنا نَعيشُ الانفعالَ داخلَ فضاءٍ مُغلقٍ؛ فلا أفُقَ له سوى نفسِه. إنّ الخصوصيّةَ فيه ليستْ في النّفسِ التي تَنفَعِلُ، إنّها مودعةٌ في الانفعالِ ذاتهِ باعتبارهِ كمّياتٍ قابلةً للقياسِ في وَضعياتٍ تُستَثارُ في الذّاكرة الافتراضيّةِ.
إِنَّ الكَلماتِ في البرْمجةِ مَحدُودةٌ رغم وفْرتِها، مثلما أنّ السِّياقاتِ مَوجُودةٌ أيضاً، ولكنّها لا يُمكنُ أنْ تُوجدَ إلا في ما يُشكِّلُ ذاكرةً لا تَتَصرَّفُ إِلَّا في ما هو مُمْكِنٌ في عُموم تَجْربتِها. إِنَّ سِياقَاتِ الحاسوب لا تُعدُّ ولا تُحصى، أمّا سياقاتُ التّجربةِ الفرديّة فمحدودةٌ، وذاك ما يُشكِّلُ أصالتَها. إنّها لا تُدْرَكُ اسْتنادًا إِلى ترابطاتٍ لَفظِيّةٍ قَارَّةٍ، بل اسْتنادًا إِلى خِبْرَةٍ حَيَّةٍ يأْويهَا حَدْسٌ شِعْريٌّ مخصوصٌ. وَهو ما يَعنِي أنَّ الشّعر يُولَدُ ضِمْن خِبْرَةٍ إِنْسانيَّةٍ "حَقيقِيّةٍ" تَتَبلوَرُ ضِمْن مُمكنَاتِ شَرْطِ الإنْسانِ في الأرْضِ، يَتَعلَّق الأمْرُ بِاسْتثارةِ أَهوَاءٍ هي من صُلْب الاسْتعْمالِ الفرْدِيِّ لِلُّغةِ. إنّ الشّاعرَ يَنفخُ في الكلماتِ من روحِه لتُصبحَ قادرةً على استيعابِ الشّوقِ والتّوقِ والحيرةِ والتمزُّقِ داخلَه.
البرمجة لا تنتج شعرًا
لذلك لا تُنتحُ البرمجةُ المسبقةُ شعراً، كما أنّ الأفْكارَ لا تَصنَعُ شاعرًا، إِنَّ الشّاعرَ يُروِّضُ الكلماتِ ويُجبِرُها على التَّخَلِّي عن معانِيها المأْلوفةِ، إنّه يَدفعُها إلى التخلُّصِ من حَقائِق الأشْياءِ في الطَّبيعة لِيُسرِّب إِليْهَا حَقائِق تَختَفي في الظِّلَال الحسِّيَّة ِكما يلتقطُها وجدانُ المتلقِّي. فهذا يَبحَثُ فيهَا عن علاقَاتٍ قد يُنْكرهَا العقْلُ، لكِنّ الوجْدانَ يرى فيهَا ماوىً وملجأً وروحاً جديدةً تَحمِي الذّاتَ من صُرُوفِ الدَّهْر وعادياتِه. وكما أنَّ اللَّه قَادِرٌ على خَلْق كُلِّ شَيْء عدَا قُدرَتَه على خَلْق خَالِقٍ يُضاهيه في الخَلْقِ، فَإِنّ الذَّكَاءَ الاصْطناعيَّ يُمْكِن أنْ يُبْدِع كُلَّ شَيْءٍ عدَا العبْقريَّةَ، فَهي لَيسَت صِفةً من صِفَاتِ الآلَة، بل هي مَلكَةٌ من ملكاتِ الإنْسانِ وحْدَه.
الشعر الافتراضي
لِذَلك لا يُمْكِن "لِلشِّعْر الافْتراضيِّ" أنْ يَكُونَ سِوى "مُحاكَاةٍ" مزيّفةٍ لِشعرٍ حَقيقِيٍّ، مثلما أنّ "الزّمنَ محاكاةٌ مشوهةٌ للخُلودِ": إنّه الانْطلاقُ من عددٍ هَائِل من النَّماذج الشّعريَّةِ السَّابقةِ من أَجْل إِنتَاجِ مِئَاتِ القصائدِ بِنقْرةٍ فأْرةٍ. يَتَعلَّق الأمْرُ بــــِ"روبوتات" شِعْريَّةٍ لا تَختَلِفُ عن الرُّوبوتات الموجَّهةِ لِلْقيَام بِالـمهامِّ المنْزليَّة. إِنَّها لا تُبْدِع إِلَّا ما سبقَ أن تعلَّمَتْه من النَّماذج التِي تُغذِّيها. وعلى عكس الشّاعرِ الذي يجب أنْ يَنسى ليَكتُبَ شعراً، فإنّ الحاسوبُ مجبرٌ على التذكّرِ دائماً. لذلك كان الشّعرُ إِبْدَاعاً لصُوَرٍ جديدَةٍ، إنّه اسْتعْمالٌ لِكلماتٍ بِطريقةٍ خَاصَّةٍ هي أَصْلُ الشّعرِ، إنَّه يَتَعامَل مع اللّغة خَارِج طاقاتهَا التَّعْيينيَّة، إنّه يفرضُ عليها التخلّصَ مما لَحِقَها من مَراجِعَ لا شيءَ يفصلُ بينها وبين الخبرةِ. إِنَّ الكلماتِ تَحضُر في النّصوصِ من خِلَال بُعْدِها الرمْزِي في المقَام الْأَول.
- جزء من دراسة قدمها الدكتور سعيد بنكراد عضو لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية