بصراحة، لم أعد أفهم ما الذي يحدث على «تيك توك»! ما كان يفترض أن يكون مساحة للمرح والابتكار، تحول إلى مستنقع من الترهات والانحطاط والسفه، ومسرح مفتوح للابتذال.
التطبيق الذي يتصدر هواتف المصريين أصبح بؤرة للفوضى، والتربح غير المشروع، وانهيار القيم وشبهة تجارة الأعضاء.
رأينا ونرى كثيرا شبابا صغارا في بدايات العمر، بلا أي مؤهل علمي أو موهبة حقيقية، يظهرون في بث مباشر داخل فيلا فارهة، ويقودون سيارات ثمينة بأرقام خرافية، ويتحدثون عن حسابات بنكية بالدولار واليورو، ما يضعنا أمام حقيقة مؤكدة أن هناك خللا كبيرا، وأن الأسئلة الصعبة باتت ضرورية.
نشاهد هذه الفيديوهات المتداولة، ونتساءل: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ فتاة ترقص بكلمات غير لائقة، شاب يسخر من الدين، آخر يصرخ على الهواء ليحصد المشاهدات، ومتابعون بالملايين يرفعونهم إلى مصاف النجوم، أين الخطأ؟ فينا نحن كمجتمع؟ أم في غياب الرقابة؟ أم في تغييب الوعي؟
من أين جاء هؤلاء بكل هذا الثراء؟ وما مصدر الأموال التي تتدفق عليهم؟ ومن وراءهم؟ ولماذا يترك هذا العبث ليبني قدوة زائفة لجيل بأكمله؟
هؤلاء لا يقدمون شيئا سوى محتوى سطحي، فيه إيحاءات، وسخرية، وازدراء، وكسر لهيبة الدين والمجتمع.
ويكفي أن ترى فتاة تقول إن الشهادة "الرسول على راسي، بس الشهادة أهم" لتفهم أننا تجاوزنا الخطوط الحمراء جميعها.
ما يثير القلق أكثر من المحتوى هو ما يحكى عن خلفياته: ثراء مفاجئ، سيارات فارهة، حسابات مصرفية ضخمة، وشبهات تلاحق البعض بالتربح غير المشروع، بل وبالانخراط في جرائم منظمة مثل غسيل الأموال أو حتى تجارة الأعضاء البشرية!
كيف لشاب لا يملك شهادة جامعية أو وظيفة واضحة أن يقتني فيلا وسيارة بثمن خيالي؟ من أين؟ وبأي منطق؟
ولأن السكوت أصبح خطرا، جاءت حملات وزارة الداخلية كجرس إنذار قوي، نعم، من حق الدولة أن تقتحم هذا الملف الشائك، لا لحماية الأخلاق فحسب، بل دفاعا عن أمنها القومي، الذي لم يعد مهددا بالسلاح فقط، بل بهواتف محمولة تحمل سموما فكرية وسلوكية.
حتى الموت دخل على الخط، وأصبحنا نقرأ أخبارا عن وفيات غامضة في صفوف مشاهير «تيك توك»، مثل دينا مراجيح، وإبراهيم الطوخي صاحب «الجملي هو أملي»، وإبراهيم شيكا.
ورغم أن الروايات متضاربة، إلا أن مجرد تداولها بهذا الحجم يعكس أزمة فقدان الثقة، وشعورا عاما بأن هناك شيئا خطيرا يجري خلف الكواليس.
مطلوب وقفة حاسمة، ليس فقط بالملاحقة الأمنية، بل بالتشريع، وفرض الرقابة الرقمية، وبفتح ملفات التربح المجهول، وسلاسل المطاعم والمتاجر التي ظهرت فجأة بأسماء لامعة، دون تاريخ ولا هوية.
جيل كامل على وشك أن يضيع إن لم نتحرك، لا بد من أن نعيد تعريف القدوة، وأن نرفع قيمة العلم والاجتهاد، لا أن نترك السفهاء يعبثون بالعقول، ونمنع سقوط ما تبقى من قيم في زمن التيك توك.
إن لم نوقف هذا النزيف سريعا، فالقادم أخطر، مطلوب قوانين واضحة، ومتابعة تقنية صارمة، وتوعية مجتمعية واسعة، قبل أن نجد أنفسنا في مجتمع يقوده «تريند» لا عقل له.