رغم أن صانع السوق يمثل عصب السيولة في الأسواق المتقدمة، إلا أن وجوده في السوق المالية السعودية يبدو شكلياً أكثر من كونه فعلياً، فبالنظر إلى دليل "تداول" الرسمي، نجد عددا من الجهات المرخصة للعمل كصناع سوق لعشرات الشركات، ومع ذلك تبقى السيولة ضعيفة في كثير من تلك الأسهم، وتبقى الفروقات السعرية واسعة، بل تشهد بعض تلك الأسهم ركوداً ملحوظاً في حركة التنفيذ، فالمفترض أن صانع السوق الحقيقي يلتزم بتوفير أوامر بيع وشراء دائمة وبكميات معينة، مما يضيق الفجوة بين العرض والطلب ويساعد على تسعير الأوراق المالية بشكل عادل حتى في الفترات التي يقل فيها عدد المشترين والبائعين الطبيعيين، لكن إذا كانت السوق تعاني من ضعف السيولة على الرغم من وجود هذا العدد من صناع السوق المعتمدين، فالسؤال المطروح: هل النموذج الربحي لصانع السوق في السعودية قابل للتطبيق أصلاً؟ وهل التنظيم الجديد الذي أعلنت عنه "تداول" الأسبوع الماضي بخصوص تعديل وحدات تغير أسعار الأسهم يساعد أم يعيق عمل صناع السوق؟
المفارقة أن بعض الشركات أعلنت عن موافقة جمعياتها العامة أو مجالس إدارتها عن تعيين صناع سوق منذ فترة، ومع ذلك إما لم يتم ذلك فعلياً أو بعضها جربها قليلاً ثم توقف عن ذلك، ولا نعلم هل الأسباب من الشركات أنفسها أم من صناع السوق. من جانب آخر، قامت "تداول السعودية" أخيرا بتعديل وحدات تغير أسعار الأسهم لتكون أضيق منها سابقاً، وفق نطاقات سعرية محددة بهدف تحسين كفاءة السوق وتقليل تقلبات الأسعار وزيادة جاذبيتها للمستثمرين. ومع أن خفض وحدة تغير السعر، مثلاً بدلاً من 5 هللات كحد أدنى في إحدى شرائح الأسعار أصبحت الآن هللتين فقط، وهذه – على العكس مما يظنه بعض المتداولين – مفيدة في منح البائعين والمشترين مرونة أكثر، ولكن هل تقليص الفارق بين العرض والطلب (وهو ما يصبح ممكناً الآن مع تلك الوحدات الجديدة) مفيد لصانع السوق؟
إذا كانت "تداول" تسعى إلى تعزيز دور صناع السوق ورفع مشاركتهم في توفير السيولة، فبكل تأكيد إن تقليص الفارق بين العرض والطلب ليس في مصلحتهم، وهنا إشكالية يجب التعامل معها بطريقة أو أخرى، أي أنه نعم هناك حاجة لدعم صناعة السوق وفي الوقت نفسه هناك حاجة لتقليص "السبريد" على المتداولين، والاثنان لا يجتمعان بسهولة. لماذا؟ السبب هو أن ربحية صانع السوق تعتمد على عدد الصفقات التي تتم خلال اليوم، وعلى الفارق بين سعري البيع والشراء، لأن صانع السوق يعمل كأي تاجر يشتري بسعر ويبيع بسعر آخر. وهذه الإشكالية موجودة حتى في الأسواق الأمريكية التي تتمتع بأقل وحدة تغير للسعر، عادة سنت واحد أو أقل، ولكن هناك يستفيد صناع السوق من حجم النشاط اليومي الكبير. وبالمناسبة، حتى في الأسواق الدولية يواجه صناع السوق تحديات، وبدأت أعدادهم بالتناقص ولكن الأسباب تختلف عن المشكلة في السعودية، فهناك تشديدات رقابية جاءت بعد الأزمة المالية العالمية، نتج عنها تراجع في أعداد صناع السوق، إضافة إلى ارتفاع متطلبات رأس المال (كما في "بازل 3")، وتغيرات في تسعير العمولات وتدفق الأوامر بين الوسطاء والأسواق وصناع السوق، نتج عنها انخفاض في عدد صناع السوق المسجلين في بعض البورصات بنسبة تتجاوز 30% خلال العقد الأخير، بسبب تآكل "السبريد" وارتفاع تكاليف الامتثال والمخاطر خلال فترات التقلبات الحادة. لذا بدأت تظهر حوافز مالية لصناع السوق لمساعدتهم على ممارسة أعمالهم المنوطة بهم، المتمثلة في تقديم عروض بيع وشراء بشكل مستمر طوال اليوم.
إذا فمسؤولية "تداول" وهيئة السوق المالية السعودية أصبحت مضاعفة، فالتنظيم والتراخيص وحدها لا تصنع "صانع" سوق نشط، بل لا بد من مراجعة شاملة لنموذج الحوافز والربحية، من خلال تخفيض رسوم التداول لصانع السوق، وتقديم حوافز أو دعم مباشر في فترات التقلبات الحادة، لا سيما في سوق ناشئة كسوقنا التي تحتاج إلى صناع سوق لعدد كبير من شركاتها، إن كان الهدف بالفعل رفع كفاءة السوق وجذب المستثمر المؤسسي والأجنبي، الذين يرون أن الكفاءة والعدالة في التداول لا تتحقق دون وجود صانع سوق حقيقي يسد الفراغات السعرية المخلة بالتداول.
ختاماً، صانع السوق ليس "زينة تنظيمية"، بل ضرورة وجودية لكثير من شركات السوق، ولا بد من إيجاد آليات محفزة له للبقاء في السوق في ظل تقلص فروقات الأسعار بين العرض والطلب بسبب وحدات التغير الجديدة.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.