الاربعاء 14 مايو 2025 | 07:13 صباحاً
أرجو أن لا أكون صادمًا حين أخبركم أن انتخابات نقابة الصحفيين التي تمت يوم الجمعة 2/5 الماضي، والذي شكر الصحفيون ربهم أنها مرت بسلام.. لم تمر بسلام، وأن هذا الهدوء لم يكن حقيقيًا على الإطلاق.. فهذا اليوم كما رأيته كان اليوم الذي يمثل "النقطة صفر" على منحنى الانهيار لهذه المهنة، في لحظة لم يدرك أحد وسط صخب المعارك الانتخابية أنها كانت لحظة فارقة بين الموت والحياة لكل هذه الصناعة.
المؤامرة بدأت على منحنى الانهيار في نفس اللحظة التي جلس فيها المشرع المصري ليقوم بحذف عبارة "الصحافة سلطة شعبية رابعة" من دستور 2012، بعد أن عاشت مهنة الصحافة تمارس دورها كسلطة رابعة منذ أن منحها الرئيس السادات هذا الحق في دستور 71.
فقد تم وبمنتهى الرصد والترصد إطلاق "رصاصة الغدر" على هذه المهنة، رغم أنها عاشت في كل تاريخ مصر الحديث وبكل شرودها قميص أبيض أسفل عباءة السلطة.
13 عامًا مضت بالتمام حتى وصلنا للنقطة صفر.. الجميع في مصر كان يعرف أن الصحافة المصرية وصلت لحالة من المرض ربما لن تتمكن من الحياة بعدها.. وهو رهان يمكن أن نؤكد بكل أدوات النفي والجزم أنه غير حقيقي، فلو كنت من هؤلاء المؤمنين بأن الكلمة هي ضمير هذه الأمة الجمعي وصوت فرحها وشجونها، فموت الصحافة يعني بالضرورة موت الأمة نفسها.. ولأن هذا كلام ليس إنشائي، فنظرة سريعة على أي مقياس للعلوم السياسية سوف يخبرك أن أي أمة عظيمة في تاريخ البشرية كان أهم مفردات قواها الشاملة التي صنعت قوتها، هو قوتها الناعمة التي تقف الصحافة والإعلام في القلب منها، فكيف تكون دولة عظيمة وهي بلا صوت يسمعه العالم ويؤثر فيه.
أي نظام سياسي، وأيضًا على أي مقياس سياسي علمي، لا يمكن قياس قدرته على السلطة دون تأثيره في الجماهير التي يحكمها، وكيف سيؤثر دون أن تسمع تلك الجماهير صوتًا له، اللهم إن كان بعض المؤمنين بالنظرية الأمنية وحدها يتشيعون للرأي القائل إن القبضة الأمنية وحدها كفيلة بالحكم، وهذه نظرية أثبتت عبر التاريخ أنها ببساطة ودون تعقيد "كلام فارغ" لا يستحق حتى البحث فيه، ككل النظريات السياسية التي سقطت عبر التاريخ.
ولأن في مصر صاحبة التاريخ الطويل أدرك كل قادتها في عصرها الحديث قيمة الأذرع الإعلامية للسلطة، فقد تم السيطرة على أصحاب الكلمة طيلة عقود، في الشكل الأعم للعلاقة بين السلطة والصحافة في مصر، وهي علاقة أصبحت شديدة التعقيد في هذا العصر.
لم يكن الرئيس السادات بالحاكم الساذج مطلقًا حين رأى أن الصحافة سلطة شعبية رقيبة لنظامه وعلى نظامه، حين منحها هذا الحق دستوريًا في دستور 71.. وفي عصر مبارك جنى النظام السياسي مكتسبات إعلام الريادة الذي بدأ عقب 56 مع الضباط الأحرار وتبلور مع السادات.. وفي يقيني أن المستفيد الوحيد من إخراس الصحافة والعمل بمنهجية على انهيارها وتحولها لصوت واحد، هو منظومة الفساد التي تعلم يقينًا أن صحافة حرة سوف تفضحها.
فلم تكن أحداث يناير 2011 غير لحظة انفلات إعلامي أرعب الجميع، هذا الانفلات المصاحب لأحداث ثورية طبيعتها جميعها الانفلات، تم استغلال الصحافة والإعلام فيه في نفس الحرب التي تم ممارستها على مصر فيما عرف بحروب الأجيال الرابع والخامس وما تبعها.. فكان في زاوية أخرى إرادة مرتعبة على الوطن رأت أن الإعلام المصري يمكن أن يكون رصاصة في ظهر الأمة، وهو كلام له وجاهته بكل تأكيد.
فحدث ولأول مرة في تاريخ مصر تحالف بين الوطنيين والخونة والفسدة على الإعلام!! فكانت النتيجة 13 عامًا من الموت السريري لهذه المهنة.
ما علاقة كل ما سبق بانتخابات الصحفيين؟! الحقيقة أن الراصدين لهذه الانتخابات "العادية" يدركون كليًا أنها لم تكن مجرد صراع نقابي عادي، فللمرة الثانية يصرخ الصحفيون بـ"لا" لمرشح لمنصب النقيب يأتي على خلفية موالية للسلطة.. يحدث هذا في نفس اللحظة التي أرى أن السلطة في مصر قد رفعت ولأول مرة، وبشكل مباشر شعارًا يرتدي قناع "المصالحة" فيما بينها وبين الصحافة في مصر.. تشكلت في عروض سخية وسط انهيار مادي للسواد الأعظم من الصحفيين، ورغم ذلك كانت عبارة الغضب صاحبة الصوت الأعلى، الذي أتى وللمرة الثانية بنقيب يقف شكليًا على يسار السلطة، و6 من أعضاء المجلس يمتازون جميعهم بشعبية وقدرات شخصية على إقناع ناخبيهم بهم، بمعزل عن لعبة المعارضة والموالاة، من تفاصيل الاختيارات، حتى من جانب السلطة التي بدا أنها لا يعنيها في عرض المصالحة غير منصب النقيب والهبات الممنوحة له، لتكن النتيجة التي فسرها البعض ـ ولست منهم ـ أن الصحفيين قالوا لا للدولة.
هذه اللحظة التي رأيتها بشكل مختلف، فلو فرضنا 13 عامًا مضت أوصلتنا للنقطة الصفرية في العلاقة بين السلطة والصحافة، وأقصد هنا دون مواربة فكرة الحرية في التعبير والنشر الذي يكفلهما الدستور بشكل واضح، ففي هذه اللحظة على وجه التحديد وقف عناصر هذه الصناعة الثلاث الرئيسية "الناشر، الجمهور المتلقي، والسلطة الحاكمة" أمام حقيقة واضحة المعالم، لم يعد يمكن إنكارها، تفيد أن الأمة كلها أصبحت تحتاج لصوتها وضميرها بشكل لم يعد يسمح ببقاء الأحوال كما هي عليه ولو للحظة واحدة قادمة.
فعلى جانب السلطة لا يمكن بأي حال أن تدحل مصر في تاريخ بناء جمهوريتها الجديدة وهي مجردة من أذرع إعلامية حقيقية، خاصة بعد أن باتت كل المحاولات السابقة بالفشل، سواء محاولات احتكار الإعلام، أو محاولات تقليص المنصات المملوكة للدولة، أو محاولات استبدال ماسبيرو ثم العودة في محاولة إحيائه، أو محاولات صناعة الصوت الواحد ثم الفشل فيها، ثم محاولة إنشاء قناة إخبارية وحيدة تنقذ الموقف، أو محاولة لعبة التباديل والتوافيق على سلم المناصب لأشخاص لا يحكمهم سوى معيار الموالاة للنظام السياسي.. كل هذه المحاولات تم إعلان فشلها بشكل واضح يوم 2/5 الماضي، ليس لأن في الشكل العام انحاز الصحفيون لنقيب من زاوية المعارضة، وليس لسخونة الصراع التاريخية، وليس لأنها شهدت رقم تصويت وحضور تاريخي أيضًا، ولكن لأن حقيقة هذه المهنة ودورها والاحتياج لها من الجميع، تجلت بشكل واضح وجلي في هذا اليوم.
فلا الصحفيون سيقبلون أن تلعنهم سطور التاريخ حين تتحدث عنهم فيما حدث معهم ومنهم طيلة 13 عامًا مضت، ولا الدولة يمكنها أن تتحول إلى دولة حقيقية، فما بالك بدولة عظمى، وهي تفقد جزءًا رصينًا من عناصر القوة الشاملة لأي دولة، وهو ذراعها الإعلامي، ولم يعد من اللائق أن يتحكم في العقل الجمعي المصري منصات السوشيال ميديا، فهذا يعني بالضرورة سقوط هذه الأمة فريسة بغير حرب، بعد أن أُطلقت عليها رصاصات السوشيال ميديا من مدافع الأعداء في كل مكان.
لكل ما سبق دعني أبشركم ونحن نقف فوق النقطة صفر، وقبل أن يحدث أي شيء، أن القادم لا محالة.. وشاء من شاء وأبى من أبى.. لا يمكن أن يكون سوى منحنى صاعد، لا أعلم هل سنحتاج لـ13 عامًا قادمة أم أننا سنحتاج إلى 13 شهرًا فقط كي تعود كلمة مصر وصحافتها حرة وأبية مرة أخرى.
اقرأ ايضا