
تفكيك هادئ لنظام الدولار وتحولات تعيد خرائط النفوذ المالي
في الوقت الذي تنشغل فيه العناوين العريضة بتقلبات الفائدة وأسعار النفط وأسواق الأسهم، فإن هناك تحولات اقتصادية غير معلنة تجري بهدوء على الهامش لكنها بالغة العمق والتأثير، وتشير إلى أن النظام المالي العالمي كما نعرفه يمر بمرحلة إعادة تشكيل بطيئة وصامتة، دون بيانات رسمية أو تصريحات وزارية أو قرارات فورية يمكن تتبعها، حيث تتحرك بنوك مركزية في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا لإعادة رسم خرائط التمويل والاستدانة بعيدا عن الدولار الذي كان لعقود هو العصب الحاكم لكل معادلات السيولة الدولية.

التحول لا يُدار من قبل السياسيين بل من قبل التكنوقراط والمصممين الاستراتيجيين للاقتصاد، الذين لا يظهرون في المشهد الإعلامي لكنهم يعيدون توزيع أدوات التأثير الاقتصادي ببطء وذكاء وهدوء.
اليوم يتم استبدال الدولار، تدريجيًا بعقود ديون مقومة باليورو واليوان وحتى الروبل، والهند علي سبيل المثال تسعى لإطلاق نظامها المحلي للمدفوعات العابرة للحدود على غرار "سويفت" لكن دون الحاجة إلى المرور عبر بوابات واشنطن والمفارقة أن هذا التراجع في استخدام الدولار لا يجري عبر قرارات سياسية صادمة بل من خلال توصيات خفية تصدر عن مستشارين ماليين وتقارير استخبارات اقتصادية داخلية لا يتم تداولها إعلاميا لكنها ترسم المسار القادم للخروج المنظم من قبضة الهيمنة النقدية الأمريكية.
النظام الجديد لا يعترف بقواعد بريتون وودز
وفي اطار ذلك، تشهد السياسات الحمائية عودة غير معلنة لكن ملموسة حيث تشير بيانات جمركية ومعلومات استخبارات تجارية إلى أن عشرات الدول فرضت منذ مطلع هذا العام رسوما جمركية مخفية على سلع وخدمات معينة تحت مسميات الحماية البيئية أو التوازن الغذائي أو الجودة الفنية لكنها في جوهرها محاولة لصناعة جدران اقتصادية تحصن الداخل وتبطئ تسرب النقد الأجنبي أو هيمنة المنتجات الأجنبية وتمثل هذه السياسات ارتدادا استراتيجيا نحو اقتصاد ما قبل العولمة لكنها تأتي بصيغة ناعمة لا تثير ردود فعل سياسية عنيفة.
أما الشرق الأوسط، فأصبح ساحة اختبار واقعية لمرحلة الاقتصاد المتعدد الأقطاب حيث تتحرك مصر وتركيا والسعودية والإمارات في مسارات تمويلية مزدوجة تعتمد على أدوات تقليدية من الغرب وأدوات بديلة من الشرق مع الاحتفاظ بالقرار داخل العواصم لا في مراكز الإقراض الدولية، هذا النموذج الذي يطلق عليه confidential hybrid sovereignty أصبح محل اهتمام خاص في تقارير داخلية صادرة عن مؤسسات تقييم المخاطر السيادية لما يحمله من تهديد ضمني لنفوذ المؤسسات المالية التقليدية.
واللافت أن هناك صعود بالشرق الأوسط كلاعب سيادي مزدوج المرجعية حيث باتت مصر وتركيا والسعودية على وجه الخصوص تدار من خلال نماذج متوازنة لا تنتمي كليا إلى الغرب أو الشرق، بل تنفتح على خطوط تمويل متوازية من واشنطن وبكين وبرلين، في الوقت نفسه، وهي ترتيبات مالية معقدة تسمح لهذه الدول بالحصول على تمويلات واستثمارات دون الحاجة إلى إعلان انحياز جيوسياسي مباشر، وهي الظاهرة التي باتت تُعرف داخل بعض مراكز القرار الأوروبي بمفهوم السيادة الاقتصادية الرمادية.
ولم تعد الموارد الجغرافية مجرد ثروات اقتصادية بل تحولت إلى عناصر ضغط سياسي يتم تحريكها في الكواليس، وفي المجمل فإن العالم يشهد ولادة بطيئة لنظام اقتصادي متعدد الأقطاب لا يخضع لأوامر أحد الأقطاب، بل تديره تفاهمات مرنة عبر أدوات مالية وجيوسياسية يجري تحريكها خارج الضوء، ولا يتم الاعتراف بها رسميًا لكنها الأكثر تأثيرًا على الأرض.
هذه القراءة لا تستند إلى منشورات إعلامية ولا بيانات رسمية، بل إلى مسارات فعلية تتحرك داخل الأسواق وصناديق التمويل الكبرى وتجري صياغتها حاليًا في مراكز العصف الذهني المغلقة، والمؤكد أن القادم لن يكون مجرد تعديلات على النظام بل إعادة هندسة شاملة للمنطق الاقتصادي العالمي، خارج الحدود التي رسمتها بريتون وودز وواشنطن ولندن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تحول ناعم - لا تخبر به المؤشرات - يرسم مستقبل المال في العالم
وكما قلت فإن ما يجري في الإقتصاد العالمي، لا يروى في المؤتمرات الصحفية ولا ينقل في نشرات الأخبار لكن رصده يتم داخل الغرف المغلقة في مكاتب البنوك المركزية وشركات التمويل السيادي وأجهزة الاستخبارات الاقتصادية ومنظمات التعاون والتنمية، ومجالس الظل التابعة للمؤسسات الصناعية الكبرى، فالعالم يشهد عملية إعادة تشكيل صامتة للهياكل النقدية والتجارية والتمويلية التي حكمته لعقود حيث يتم الآن وفي صمت شديد تقويض منظومة الدولار كعملة مرجعية وحيدة للنظام العالمي وتحويلها تدريجيا إلى خيار ضمن سلة أوسع من العملات الدولية دون أن تعلن أي دولة ذلك بشكل رسمي أو مباشر، فما يحدث لا يشبه الحرب المفتوحة بل أقرب إلى جراحة نقدية دقيقة، تنفذها أطراف مختلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لتقليص اعتمادها على الدولار في التسعير والتمويل والاحتياطيات والعملات الرقمية السيادية، فهي ليست مجرد ابتكار تقني، بل جزء من هذا التحول حيث تعمل الصين والهند وروسيا والبرازيل على إطلاق أنظمة دفع تسحب تدريجيا النفوذ من النظام الغربي القائم على سويفت ومقاصة نيويورك وتعمل هذه الدول على عقد اتفاقيات تسوية مباشرة بعملاتها الوطنية في تجارة الطاقة والسلاح والغذاء من خلف الكواليس.
وبعيدا عن الخطاب الرسمي، فإن أرقام التجارة الخارجية التي لا يتم تسليط الضوء عليها تكشف عن تراجع تدريجي في نسبة العقود المسعرة بالدولار بين عدد من الاقتصادات الكبرى خصوصا في صفقات الغاز والمعادن النادرة والمعدات العسكرية.
صراع داخلي صامت بين تيارات داخل المفوضية الأوروبية
وفي أوروبا يجري صراع داخلي صامت بين تيارات داخل المفوضية الأوروبية بشأن فك جزئي للارتباط المالي عن واشنطن وفتح خط تمويل استراتيجي مع آسيا دون المساس بالتحالفات الأمنية التقليدية وهذا ما يفسر تسارع إصدار السندات المقومة باليورو، من قبل دول كانت تقترض بالدولار مثل تركيا والمكسيك ونيجيريا، وفي الوقت نفسه تعيد دول آسيوية صياغة عقود مشاريع البنية التحتية لتسعيرها باليوان والروبية وهو ما لم يكن مقبولا قبل خمس سنوات.
أما السياسات الحمائية، فهي تعود بقوة لكن دون شعارات قديمة إذ تقوم عشرات الدول حاليا بفرض قيود مخفية على الواردات من خلال متطلبات بيئية أو صحية أو لوجستية ظاهرها الشفافية وباطنها الحماية الإقتصادية وهي إجراءات يتم التوافق عليها في دوائر مغلقة دون الإعلان عنها رسميا لضمان عدم التصادم مع قواعد منظمة التجارة العالمية.
وتقود الصين توجها موازيا يقوم على ترسيخ نموذج اقتصادي قائم على السيطرة على سلاسل القيمة بالكامل، بدءا من المعادن والتصنيع وحتى التوزيع الرقمي وهي تنسق في ذلك مع روسيا وإيران والهند، وعدد من الاقتصادات الناشئة ضمن ما يمكن اعتباره تكتل ظل تجاري ومالي لا يحمل اسما رسميا لكنه يتحرك فعليا على الأرض، وفي المقابل تحاول الولايات المتحدة خلق منظومة تحصين صناعي داخلي من خلال سلاسل توريد مؤمنة داخل حدود الحلف الغربي، وهو ما يعرف داخل بعض المؤسسات بعبارة decoupling without panic أي فك الارتباط دون ضجيج.
استخدام الموارد الطبيعية كأدوات تفاوض
أما في أفريقيا، فقد بدأت عدة دول استخدام مواردها الطبيعية كأدوات تفاوض، وليس فقط كأصول اقتصادية، كغينيا وكينيا والنيجر وجنوب أفريقيا، حيث بدأت جميعها تقايض الوصول إلى المعادن النادرة مقابل ترتيبات جيوسياسية جديدة، لا تمر عبر واشنطن أو باريس أو لندن، بل تدار عبر تفاهمات جديدة مع بكين وموسكو والهند.
فالعالم لا يتحرك نحو نظام عالمي جديد معلن، بل نحو مشهد رمادي متعدد الأذرع، يتم فيه تفكيك أطر ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستبدالها بشبكات تعاون وتحالفات مالية وتجارية مؤقتة ومرنة لا ترتكز إلى قاعدة قانونية واحدة لكنها فعالة وواقعية ويجري تصميمها بعناية في غرف الاجتماعات المغلقة لشركات التعدين ومؤسسات الطاقة وصناديق التمويل السيادي.
ترامب: الحفاظ على موقع الدولار ليس خيارا بل مسألة بقاء
ويري الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن الحفاظ على موقع الدولار ليس خيارا بل مسألة بقاء، ويعتبر أن خسارة الدولار كعملة احتياط عالمية تعادل خسارة حرب كاملة، وهو يعارض توجهات إزالة الهيمنة المالية الأمريكية ويتبنى أسلوب الهجوم الوقائي من خلال تصعيد الرسوم الجمركية، وإعادة هندسة التوازن النقدي مستخدما أدوات مثل خفض مدروس لقيمة الدولار لكن تحت سيطرة سياسية ومصرفية صارمة، يضغط علنا على الاحتياطي الفيدرالي ويصفه بأنه عقبة في وجه إعادة تموضع أمريكا المالي، ويهدد صراحة بإقالة قيادته حال فوزه، وفي الوقت نفسه يروج لمبادرات مالية مثل اتفاق مارالاغو الذي يستهدف التحكم في خفض قيمة الدولار بالتنسيق مع شركاء مختارين وليس كاستسلام للضغوط الخارجية.
ترامب يلمح ويهدد بمواجهة مباشرة مع تحالفات بديلة مثل بريكس ويصفها بأنها غير قادرة على تشكيل تهديد حقيقي طالما أن واشنطن تملك السيطرة على الدولار وتقود موجة جديدة من السياسات التي تمزج الحماية التجارية بالهيمنة النقدية ويستخدم هذا المزيج كأداة ردع اقتصادية ضد الدول الساعية للانفصال عن النظام المالي الغربي، وتشير تصريحاته الأخيرة إلى أنه يرى أن مستقبل أمريكا الاقتصادي يمر عبر فرض إرادة الدولار بالقوة لا بالثقة وأن عالم ما بعد ترامب قد يكون أكثر حدة وصداما من عالم ما قبله.