بعد خطوات التقارب الحذر من جانب روسيا مع حركة طالبان بعد عودتها إلى الحكم فى أغسطس ٢٠٢١، أعلنت روسيا رسميًا اعترافها بإمارة أفغانستان الإسلامية كحكومة شرعية فى البلاد، لتصبح أول دولة تتخذ هذا الموقف العلنى بعد ما يقرب من أربع سنوات من حكم الحركة.
الإعلان جاء عبر تصريحات واضحة من ممثل الكرملين الخاص لأفغانستان، زامير كابولوف، تلاه تأكيد رسمى من وزارة الخارجية الروسية، التى أعلنت تلقيها أوراق اعتماد السفير المعين من قبل طالبان فى موسكو، جول حسن، فى إشارة رمزية قوية على تحوّل فى السياسة الروسية تجاه كابل.
القرار الروسى لم يكن مفاجئًا فى سياقه العام، لكنه جاء محمّلًا بدلالات سياسية واستراتيجية عميقة، سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو فى ضوء التطورات الجيوسياسية فى آسيا الوسطى. فمنذ سيطرة طالبان على البلاد، اختارت موسكو الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة مع الحركة، بل استضافت وفودًا منها فى مؤتمرات إقليمية.
والآن، بعد الاعتراف الرسمى، يبدو أن الكرملين انتقل من سياسة الانخراط الحذر إلى سياسة الاحتضان المشروط، مع التركيز على ملفات الطاقة والنقل والزراعة ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، كما ورد فى بيان الخارجية الروسية.
دوافع الاعتراف
رغم أن الخطوة الروسية قد تبدو استفزازية للغرب، خصوصًا فى ظل القطيعة المتزايدة بين موسكو والعواصم الغربية، فإنها تعكس فى جوهرها براجماتية روسية تهدف إلى ملء الفراغ الدبلوماسى الذى تركته الولايات المتحدة فى أفغانستان.
فروسيا، التى لطالما تخوّفت من تصاعد النشاط الإرهابى على حدودها الجنوبية، ترى فى تقنين العلاقة مع طالبان فرصة لضبط المشهد الأمنى فى جوارها الحيوى.
ومن هنا، يبدو أن الاعتراف لم يكن مكافأة لطالبان بقدر ما هو أداة روسية لتطويق الفوضى المحتملة فى منطقة لا تزال تعانى من تداعيات الانسحاب الأمريكى.
يضاف إلى ذلك أن موسكو تدرك تمامًا أن تجاهل طالبان أو عزلها لم يسفر عن نتائج تُذكر خلال السنوات الماضية، وأن التعامل الواقعى مع سلطة الأمر الواقع قد يفتح الباب أمام مشاريع اقتصادية تعزز من النفوذ الروسى فى جنوب آسيا.
كما أن الاعتراف قد يُنظر إليه كرسالة سياسية موجهة إلى الصين وإيران وتركيا، مفادها أن روسيا لا تزال قادرة على التحرك فى الملفات الإقليمية الحساسة، وعلى صناعة المبادرات بدل الاكتفاء بردّات الفعل.
لكن المحفز الأهم قد يكون فى الداخل الروسى نفسه؛ إذ تواجه موسكو تحديات اقتصادية وضغوطًا من العقوبات الغربية، وتسعى لتنويع علاقاتها التجارية فى مناطق أقل حساسية.
ويُنظر إلى أفغانستان كممر محتمل لمشاريع الطاقة والنقل العابر، خاصة فى حال استقرار الوضع الأمنى، وهو ما قد تراه روسيا مشروطًا بتثبيت العلاقة مع السلطة القائمة.
الاعتراف الروسى والشرعنة دولية
رغم ما تحمله الخطوة من رمزية دولية، فإنها لا تعنى بالضرورة أن موجة من الاعترافات ستتوالى، فقد واجه القرار الروسى انتقادات من المعارضة الأفغانية، وعلى رأسها الجبهة الوطنية للمقاومة، التى وصفته بأنه تشجيع للجماعات الإرهابية وتطبيع للاقتصاد الإجرامى.
كما أن القوى الغربية، بما فى ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، لا تزال تربط الاعتراف الرسمى بتحقيق تقدم حقيقى فى ملف حقوق الإنسان، وخاصةً حقوق المرأة والتعليم، وهى ملفات لا تزال طالبان تُتهم فيها بتراجع كبير عن الالتزامات الدولية.
ومع ذلك، فإن اعتراف روسيا يضع المجتمع الدولى أمام معادلة جديدة: هل استمرار تجاهل طالبان يخدم الاستقرار أم يعمّق العزلة؟ وهل بالإمكان الدفع نحو تعديل سلوك الحركة من خلال إشراكها دوليًا بدلًا من استبعادها؟.
فى هذا السياق، قد تجد بعض الدول مثل الصين وتركيا وإيران فى الخطوة الروسية مدخلًا للتفكير فى خيارات مماثلة، خصوصًا تلك التى تربطها مصالح مباشرة مع أفغانستان.
لكن يبقى أن الاعتراف الروسى، على أهميته، لا يعادل مقعدًا فى الأمم المتحدة، ولا يغيّر من الوضع القانونى لطالبان على الساحة الدولية، ما لم يُستتبع بإجراءات ملموسة من جانب الحركة تظهر استعدادها للتعامل بمسئولية دولية.
وهنا تكمن المعضلة: فالمجتمع الدولى يطالب بتغييرات داخلية، فى حين تراهن طالبان على اعترافات تدريجية تُكسبها الشرعية دون تقديم تنازلات تُذكر.
ويبدو أن قرار موسكو لم يكن مغامرة سياسية بقدر ما هو رهان محسوب على واقع جديد فرضته المتغيرات الإقليمية والدولية، ويبقى الرهان على قدرة طالبان على التحول من حركة ثورية إلى حكومة مسئولة، وعلى مدى استعداد المجتمع الدولى لتجاوز عقدة طالبان والانخراط معها بواقعية جديدة.
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق