اتصالات أمريكية مع أحمد الشرع في سوريا بشأن ملف قوات سوريا الديمقراطية المعروفة اختصاراً بـ"قسد" التي تهتم بحقوق الأكراد في سوريا، وعلى الجانب الآخر دعوة من زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان لأنصاره بإلقاء السلاح والبدء في مرحلة سياسية جديدة في تركيا.
ما بين الملفين نشهد بعض الظواهر وجب رصدها، ربما يفتح هذا الرصد المجال كي نفهم شكل المنطقة بعد غلق هذه الملفات الشائكة، ومن البداية نرى أن هناك علاقة فكرية تربط بين حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية من حيث الارتباط الأيديولوجي، حيث يُعد حزب الاتحاد الديمقراطي - الذراع السياسي لـ"قسد" - الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، ويتبنى نفس الأيديولوجيا والرؤية القومية الكردية التي وضعها عبد الله أوجلان، مع التركيز على "الكونفدرالية الديمقراطية"، كما نلاحظ أن الدعم العسكري واللوجستي لـ"قسد" والتدريبات العسكرية قد تمت على يد قيادات من حزب العمال في جبال قنديل (شمال العراق)، ولا تزال بعض القيادات غير السورية في "قسد" تتبع توجيهات الحزب مباشرةً.
كما يربط ما بين الحزبين التمويل المشترك لاعتماد "قسد" تاريخياً على تمويل حزب العمال عبر تهريب النفط والتهريب الحدودي، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرتها شرق الفرات.
كل هذه الاشتباكات لم تمنع كلا الطرفين من الاستقلال الظاهري، وذلك حسب نفى قادة "قسد" مثل مظلوم عبدي العلاقة التنظيمية المباشرة مع حزب العمال، مؤكداً أن الحزب "شأن تركي داخلي"، لكنهم اعترفوا بالتقارب الفكري، و بعد حل حزب العمال في مايو 2025، سارعت "قسد" إلى التأكيد على أنها "كيان سوري مستقل"، لكنها أشادت بالقرار كـ"خطوة تاريخية نحو السلام".
هنا يبرز السؤال حول تأثير تسليم حزب العمال السلاح على "قسد"، رد الفعل الأول هو مغادرة مقاتلو حزب العمال الأجانب (خاصة الأتراك) صفوف "قسد"، مما أضعف قدراتها القتالية وخبراتها التكتيكية، حيث شكل هؤلاء العمود الفقري لوحدات النخبة مثل "وحدات حماية الشعب".
وكذلك تصاعد التهديد التركي حيث طالب الحزب الحاكم في تركيا (العدالة والتنمية) بتوسيع عملية "نزع السلاح" ليشمل "قسد" في سوريا، كما هدد بعملية عسكرية إذا لم تمتثل.
أما عن التداعيات السياسية سوف يلاحظ المتابع تراجع النفوذ التفاوضي وفقدان "قسد" ورقة الضغط الرئيسية المتمثلة في دعم حزب العمال، مما قلص حظوظها في الحصول على حكم ذاتي موسع ضمن مفاوضاتها مع دمشق.
ومع انسحاب العناصر المرتبطة بحزب العمال، أصبحت "قسد" أكثر اعتماداً على الدعم الأمريكي المتذبذب، بينما تتعرض لضغوط متزامنة من تركيا والحكومة السورية.. إذن الصورة الآن غامضة حول مستقبل "قسد" في ظل تراجع الدعم الأمريكي، وقيام البنتاجون بخفض ميزانية دعم "قسد" من 156 مليون دولار عام 2024 إلى 130 مليون دولار في 2026، مع توجيه جزء كبير منها الآن لدعم "جيش سوريا الحرة" في الجنوب بدلاً من "قسد".
ليس هذا فقط ولكن يُرافق هذا التخفيض انسحاب حوالي 500 جندي أمريكي من قواعد في دير الزور، وإغلاق 3 قواعد عسكرية، ما يقلص الحماية الأمريكية المباشرة لـ"قسد".
صارت "قسد " في الزاوية ولا خيار أمامها إلا التفاوض مع دمشق كخيار وحيد، وقد كان هناك تفاوضا سابقا أسفر عن إتفاق مارس 2025 عندما وقّع مظلوم عبدي مع الرئيس السوري الانتقالى أحمد الشرع اتفاقاً لدمج "قسد" في الجيش السوري، وتسليم حقول النفط والمعابر الحدودية لدمشق.
وجاءت عقبات التنفيذ عندما برزت خلافات جوهرية مثل رفض دمشق فكرة "الكتلة العسكرية الموحدة" لـ"قسد" ضمن الجيش، وإصرارها على تفكيكها الكامل قبل الدمج، كما أن "قسد" ما زالت تحتفظ ببرامج تجنيد مستقلة، مما يهدد الاتفاق بالانهيار .
ويبدو أنها طابت لأحمد الشرع ليحصد مكاسب محتملة باستغلال الفراغ السياسي، والسعي لتصفية التنظيمات المسلحة غير الخاضعة للدولة، مستفيداً من ضعف "قسد" بعد انسحاب داعميها (حزب العمال وأمريكا)، واستناد دمشق على الدعم الإقليمي من تركيا والسعودية، حيث لعبت أنقرة دوراً محورياً في التوسط بين واشنطن ودمشق.
في حال نجاح دمجه لـ"قسد"، سوف يسيطر أحمد الشرع على أهم حقول النفط في الشرق السوري (مثل الرميلان)، والتي تمول 80% من اقتصاد الإدارة الذاتية، ولكن تبقى هناك تحديات تواجه خطط دمشق ومنها الممانعة الكردية التي ترى رغم الاتفاق، أن "قسد" لا تزال ترفض التفكيك الكامل، وتطالب بضمانات دستورية للحقوق الكردية قبل التنفيذ، ومن المحتمل اندلاع مواجهات بين "قسد" والحكومة، خاصة إذا شعر الأكراد بأن دمشق لا تفي بوعودها .
وبهدوء يحاول المتابع السؤال: لمصلحة من تكون المعادلة؟ الإجابة المباشرة هي أن أحمد الشرع هو المستفيد الأكبر حالياً، حيث يجمع بين انهيار خصومه التاريخيين (كحزب العمال) وتراجع دعم خصومه المحليين (كقسد)، بينما توفر المصالحة التركية-الكردية غطاءً لدمج الشمال السوري بسلاسة أكبر، وبالإجمال نستطيع رصد السيناريوهات المحتملة، أولهم هو الاندماج السلمي بنجاح دمشق في دمج "قسد" بالكامل في مؤسسات الدولة، خاصة مع ضغوط تركيا وأمريكا لضمان "انسحاب مشرف"، أما السيناريو الثاني فهو العودة للتمرد في حال فشل المفاوضات وهو ما يؤدي لتصعيد عسكري تركي أو سوري ضد المناطق الكردية، خاصةً إذا انهارت اتفاقية السلام التركية-الكردية .
باختصار، قرار حزب العمال الكردستاني تسليم سلاحه يُعد ضربةً استراتيجية لـ"قسد"، لكنه يفتح الباب أمام تحولات جيوسياسية أوسع في سوريا، حيث يبرز الدور السورى كفاعل مركزي قادر على حسم الصراع لصالح دمشق إذا أحسن قادة البلاد الجدد إدارة الملف.