
قبل يومٍ واحدٍ فقط من دخول القوات البرية الإسرائيلية مدينة غزة، بدأت مهمةٌ هادئةٌ ولكن عاجلة. سارع مسئولون فرنسيون وفاتيكانيون لإنقاذ قطعٍ أثريةٍ عمرها قرونٌ مُخزّنةٍ فى مستودعٍ تابعٍ للمدرسة الفرنسية التوراتية والأثرية فى القدس. جاءت جهودهم بعد أن أصدر مسئولون عسكريون إسرائيليون تحذيرًا: كان من المقرر قصف المبنى الذى يضمّ المجموعة.
بفضل التدخل الدولى السريع، نُقلت العديد من الآثار المسيحية - التى توثّق آلاف السنين من الوجود البشرى فى غزة - إلى مكانٍ آمن. لكن الخبراء يُحذّرون من أن هذا النجاح الجزئى يُبرز الدمار الأوسع الذى يواجه ماضى غزة العريق، حيث تستمر الحرب فى تدمير مواقع لا تُعوّض فى جميع أنحاء المنطقة.
قال أوليفييه بوكويلون، مدير المدرسة الفرنسية للآثار: "عندما يُدمّر التراث، يكون الأمر أشبه بقطع جذور شجرة". "كلنا نفقد جزءًا من تاريخنا."
قطع أثرية مُنقذة - ولكن بأى ثمن؟
تمثل هذه القطع الأثرية، التى تُمثل أكثر من ٣٠ عامًا من أعمال التنقيب، آثارًا من العصور الكنعانية والمصرية والرومانية والبيزنطية والإسلامية المبكرة. كانت مُخزنة فى برج الكوثر بمدينة غزة، وهو موقع قصفته القوات الإسرائيلية بعد أيام قليلة.
سارع بوكيون - وهو راهب دومينيكى ومحامٍ - إلى التحرك، مُتصلًا باليونسكو والفاتيكان والسلطات الفرنسية. منح المسؤولون العسكريون الإسرائيليون مُهلة أولية لرجال الإنقاذ حتى ظهر اليوم التالى لإخلاء المجموعة.
فى سباق مع الزمن، تمكن علماء الآثار والمتطوعون من إنقاذ ما يقرب من ٦٠٪ من القطع الأثرية المُخزنة، وفقًا لفاضل العطل، عالم آثار من غزة يعمل الآن فى جنيف، والذى نسق الجهود عن بُعد. قال: "أشعر وكأننى فقدت طفلًا".
التدقيق الدولى وسياسات الحفاظ
تُسلّط هذه الحادثة الضوء على المصير المحفوف بالمخاطر للتراث الثقافى لغزة فى ظل الحرب، والتناقضات فى كيفية التعامل مع التراث. فى وقت سابق من عام ٢٠٢٤، واجهت هيئة الآثار الإسرائيلية إدانة دولية عندما نشر مديرها مقاطع فيديو تُظهر قطعًا أثرية نُقلت من نفس المستودع وعُرضت فى الكنيست الإسرائيلي، فى انتهاك للاتفاقيات الدولية التى تحظر نقل الممتلكات الثقافية من الأراضى المحتلة.
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية سهّلت لاحقًا جهود الإنقاذ، إلا أن منتقدين مثل "إيميك شافيه"، وهى منظمة إسرائيلية غير ربحية تُناصر علم الآثار المُسيّس، وصفوا هذه الخطوة بأنها "عبثية".
وصرحت المنظمة قائلةً: "يُمثّل تراث غزة آلاف السنين من الثقافة والإبداع الإنساني، وهو ملكٌ لسكان غزة والفلسطينيين، بغض النظر عن ديانتهم".
وأكدت اليونسكو أنه حتى منتصف أغسطس، تعرّض ١١٠ مواقع ثقافية ودينية فى غزة للضرر أو الدمار منذ بدء الحرب، بما فى ذلك سبعة مواقع أثرية مُصنّفة.
الآثار تحت الحصار
من بين القطع الأثرية التى أُنقذت قطع من أنثيدون، وهى مدينة ساحلية يعود تاريخها إلى عام ٨٠٠ قبل الميلاد، بالإضافة إلى مقابر رومانية، وكنائس بيزنطية فى جباليا، وبقايا دير القديس هيلاريون، وهو موقع تراث عالمى لليونسكو.
لكن يُعتقد أن العديد من كنوز غزة فُقدت أو دُفنت تحت الأنقاض، ولا يمكن استعادتها. معين صادق، عالم آثار فلسطينى يُدرّس حاليًا فى جامعة تورنتو، كان يُشرف سابقًا على وزارة الآثار فى غزة، لكنه فرّ بعد جفاف التمويل فى ظل حكم حماس.
قال: "أحيانًا أشعر أن الحرب ليست ضد حماس، بل ضد الثقافة - الثقافة العالمية".
صادق، الذى تعاون سابقًا مع باحثين إسرائيليين، يُعرب عن أسفه لانهيار التعاون عبر الحدود وفقدان الإدارة التاريخية المشتركة.
روايات متضاربة وحجارة مقدسة
حتى فى الوقت الذى كانت تُخلى فيه الآثار من غزة، حضر رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو، والسفير مايك هاكابي، فعاليةً رفيعة المستوى فى موقع أثرى بالقدس الشرقية.
يقع هذا الموقع بالقرب من حى فلسطيني، ويُبجّل فى اليهودية كطريق للحجاج القدماء، وهو محل نزاع بين الفلسطينيين.
ألقى كلٌّ من روبيو وهاكابى خطابين يؤكدان على المطالب التاريخية اليهودية بالأرض.
قال هاكابي: "الحجارة تُثبت بشكل قاطع وقاطع أن الشعب اليهودي... ينتمى إلى هذه الأرض منذ ٤٠٠٠ عام".
وأضاف روبيو: "وعد الله أبدى وكامل"، مُضفيًا ثقلًا سياسيًا على رواية يراها كثير من الفلسطينيين إقصائية.
ماضٍ مشترك تحت القصف
بالنسبة لخبراء مثل لين سوارتز دود، التى تقود مركز دورنسيف لأبحاث الآثار بجامعة جنوب كاليفورنيا، والتى شاركت فى تأسيس مجموعة تراث ثنائية القومية، فإن تدمير المواقع الأثرية فى غزة ليس مجرد مأساة ثقافية، بل هو مأساة إنسانية.
وكتبت: "إن الجهود المبذولة لإنقاذ التراث الإنسانى والحياة والكرامة فى غزة تُمكّننا من فهم معنى أن تكون إنسانًا قبل آلاف أو مئات السنين، وما يعنيه أن تكون إنسانًا اليوم".
ومع استمرار الحرب وسقوط القنابل، فإن الخسارة لا تقتصر على الأرواح والمبانى فحسب، بل تشمل أيضًا محو قصة إنسانية مشتركة محفورة فى الطين والحجر والأرض المقدسة.
نيويورك تايمز
