«من سيحكم فلسطين بعد الاعتراف بها؟» يحتل هذا السؤال صدارة النقاشات السياسية في العواصم الغربية والعربية، بعدما تبنى «إعلان نيويورك» موقفاً يلزم الموقعين عليه، ومن بينهم بريطانيا، بخطوات محددة نحو تسوية سلمية لا رجعة فيها. الاعتراف بالدولة الفلسطينية لم يعد شأناً رمزياً فحسب، بل تحوّل إلى اختبار حقيقي يتعلق بمستقبل السلطة التي ستدير الضفة الغربية وقطاع غزة، وسط خلافات دولية حادة، ومعارضة إسرائيلية شديدة، ومواقف أمريكية تسعى لتأجيل أي تحول جذري في هذا الملف.
الرؤية البريطانية وخطوات ما بعد الاعتراف
بحسب تقرير لموقع «بي بي سي»، ترى لندن أن الاعتراف وحده لا يمثل نهاية المطاف، بل بداية لمسار معقد يجب أن يتبعه برنامج عمل سياسي واضح، حيث أشار مسؤول بريطاني أن السؤال الأساسي ليس الاعتراف بحد ذاته، بل كيفية منع الأمم المتحدة من التحول إلى ساحة لإعلانات فارغة لا أثر لها على الأرض. وتشدد بريطانيا على ضرورة توحيد غزة والضفة الغربية تحت سلطة واحدة، ودعم السلطة الفلسطينية لتكون المرجعية السياسية، والإعداد لانتخابات فلسطينية جديدة، بالتوازي مع خطة عربية لإعادة إعمار غزة. ورغم وضوح هذا التصور، يدرك المسؤولون البريطانيون أن الطريق مليء بالعقبات وأن تنفيذه يتطلب توافقاً دولياً لا يبدو متاحاً في الوقت الراهن.
الموقف الإسرائيلي وردود التهديد
إسرائيل ترفض بشكل قاطع أي خطوة دولية للاعتراف بدولة فلسطينية، وتعتبرها تهديداً مباشراً لمصالحها، ولا تقتصر مواقفها على الرفض السياسي، بل لوّحت بخيارات أكثر تشدداً، من بينها ضم أجزاء من الضفة الغربية أو حتى الضفة بأكملها إذا مضت الدول في هذا المسار، و هذا التصعيد يعكس استراتيجية إسرائيلية تقوم على منع أي كيان فلسطيني مستقل، حتى لو كان الاعتراف محصوراً في البعد السياسي. وفي الوقت ذاته، تحاول تل أبيب توظيف علاقاتها الوثيقة بواشنطن لإبقاء الملف تحت السيطرة، بما يحول دون أي تحول دولي قد يغير ميزان القوى على الأرض.
واشنطن والفيتو الحاضر دائماً
تبدو الولايات المتحدة عاملاً حاسماً في رسم ملامح المرحلة المقبلة. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلن صراحة أنه يختلف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بعض الجوانب، لكنه يرفض الاعتراف بدولة فلسطينية عبر ما وصفه بقرارات أحادية.
وفي أغسطس الماضي، اتخذت واشنطن خطوة مثيرة للجدل برفضها منح تأشيرات لعشرات المسؤولين الفلسطينيين، في إجراء اعتبره مراقبون متعارضاً مع التزاماتها كعضو في الأمم المتحدة. ومع امتلاكها حق النقض «الفيتو»، تستطيع واشنطن تعطيل أي مسار للاعتراف عبر مجلس الأمن. كما أن تمسك الإدارة الأمريكية بما تسميه «خطة ريفييرا» يعكس توجهها نحو إدارة طويلة الأمد لغزة دون أي دور حقيقي للسلطة الفلسطينية، مكتفية بطرح غامض حول «إصلاح الحكم الذاتي».
تناقض المشاريع الدولية والإقليمية
بات الملف الفلسطيني عالقاً بين ثلاث مقاربات مختلفة. الأولى، «إعلان نيويورك» الذي يربط الاعتراف بخطوات محددة تقود إلى الدولة الفلسطينية. الثانية، الخطة الأمريكية التي تهمش السلطة الفلسطينية وتبقي مستقبل غزة مفتوحاً على إدارة خارجية طويلة الأمد. الثالثة، المبادرة العربية التي تعطي الأولوية لإعادة إعمار غزة باعتبارها المدخل لأي تسوية سياسية.
وهذا التباين في الرؤى يكشف أن الإجابة عن سؤال «من سيحكم فلسطين بعد الاعتراف؟» لا تزال بعيدة، وأن الخلافات بين القوى الكبرى تجعل من الصعب تحديد جهة واحدة تتولى إدارة المرحلة المقبلة بشكل فعلي.
الفلسطينيون بين الاعتراف والحماية
على الجانب الفلسطيني، تبدو الأولويات مختلفة عن حسابات العواصم الكبرى. فبينما يناقش المجتمع الدولي مستقبل الدولة والسلطة والانتخابات، يطالب كثير من الفلسطينيين بوقف فوري للقتل في غزة باعتباره المسألة الأكثر إلحاحاً.
وعبرت المحامية الفلسطينية ديانا بوتو عن هذا الموقف بوضوح، مؤكدة أن ما يهمها ليس الاعتراف الشكلي، بل تحرك المجتمع الدولي لوقف الإبادة المستمرة. هذا الصوت يعكس معاناة يومية يعيشها سكان غزة والضفة تحت الحصار والقصف، حيث تبقى الأسئلة عن الدولة والحدود والانتخابات بعيدة عن واقعهم المباشر. وفي ظل هذا التباين بين طموحات السياسة وضرورات الحياة، يظل مستقبل فلسطين معلقاً بين اعتراف دولي لم يُحدد بعد شكله العملي، ومأساة إنسانية تبحث عن حماية عاجلة قبل أي شيء آخر.