تُظهر افتتاحية العدد 513 من صحيفة النبأ، الصادرة عن تنظيم داعش في 18 سبتمبر 2025، الوجه الأكثر وضوحًا لآلية الدعاية لدى تنظيم «داعش». فهي لا تتعامل مع مأساة غزة بوصفها كارثة إنسانية تستدعي تضامنًا أو بحثًا عن حلول، بل تعيد صياغتها داخل إطار سيميائي-إيديولوجي يجعلها «دليلًا» على صراع ديني أبدي. هذا التحويل للمعاناة إلى رمز تعبوي يكشف عن جوهر وظيفة المنبر: ليس الإعلام ولا حتى التحليل، بل إعادة إنتاج خطاب يشرعن العنف ويمنحه غطاءً أخلاقيًا مزيفًا.
منذ سنوات، تَبنّى التنظيم هذا النمط من الاستثمار الدعائي في الأزمات: كل حدث جيوسياسي، مهما كان معقدًا أو متشعبًا، يُعاد اختزاله إلى صراع ثنائي «نحن ضد هم». الهزيمة تتحول إلى مؤامرة وخيانة داخلية، والنكبات الإنسانية تُقدّم كبرهان على «العداء الحضاري»، أما أي نجاح عسكري أو صمود شعبي فيُستغل كذخيرة رمزية لإدامة التعبئة. هذا النمط يوجّه القارئ لا كمتلقٍ للخبر، بل كجزء من مشروع أيديولوجي يُراد له أن يعيش ويتجدد عبر الزمن.
الأخطر أن هذا الخطاب يسعى إلى حيازة الشرعية من خلال الدين والتاريخ، ما يمنحه قدرة على تجاوز اللحظة الراهنة ليصبح جزءًا من «ذاكرة مقدسة» يعاد تفعيلها كلما اقتضت الحاجة. وهكذا، لا يعود الهدف تفسير الأحداث أو اقتراح حلول، بل تثبيت فكرة أن الصراع قائم إلى ما لا نهاية، وأن العنف وحده هو الرد الشرعي. النتيجة: إغلاق أبواب السياسة والتسويات، وفتح بوابات دائمة للتعبئة والاستقطاب.
السياق: منبر متواصل واستثمار أزمات
النبأ لا تعمل كصحيفة تقليدية تنقل الأخبار وحسب؛ بل تُمارس دورًا تنظيمياً واضحًا يهدف إلى إعادة تشكيل الوقائع وفق منظور الحركية الإيديولوجية للتنظيم. في كل عدد، تُقدّم الأحداث المحلية والإقليمية من خلال عدسة تبريرية: المعاناة تُعرض كدليل على عداء حضاري، والهزائم تُحوَّل إلى دليل على خيانة الداخل، والانتصارات تُستغل لتعظيم قدرة التنظيم الرمزية. هذه الآلية التحويلية تحوّل القارئ من متلقٍ لمعلومة إلى مستهلكٍ لخطاب متكامل يَعيد إنتاج الهوية والجماعة ومبررات العمل المسلح.
الافتتاحيات والمواد التحليلية في المنبر لا تكتفي بالسرد؛ بل تنخرط في النقد السياسي المكثف للحكومات العربية وتصورها أحيانًا كأدوات لصدّ المشروع الوطني لصالح مصالحٍ إقليمية ودولية. هذا الخطاب يوزّع الأدوار ويحدد أعداءً داخليين وخارجيين بدقة بلاغية تهدف إلى تقويض الثقة بالمؤسسات الرسمية وإيقاظ مشاعر الاستياء والاحتقان الشعبي. في الوقت نفسه، تُستخدم المرجعيات الدينية والتاريخية لتكريس شرعية التدخّل المسلح، ما يجعل من النقد السياسي مكوّنًا دينيًا ذا قيمة تعبوية.
السمة المتكررة في أعداد سابقة هي ربط أزمات ظرفية بمحاور عدائية ثابتة؛ أي أن الأزمة نفسها تُفصّل لتخدم سياقًا أوسع من الصراع الذي يصوره المنبر. عبر هذه الاستراتيجية، يتحوّل الحدث المؤقت إلى حجة دائمة تستدعي التجنيد والتبصير والفتوى، وتنتج خطابًا يوجّه الأفراد والمجموعات الصغيرة إلى أفعالٍ محددة دون تقديم تحليلٍ عملي للعواقب أو بدائل سياسية سلمية. بهذا الأسلوب، لا تظل النبأ ناقلًا للأخبار فحسب، بل مُنتجًا لخطابٍ استعادي يُعيد تشكيل سلوك الجمهور وتوقعاته بشأن الحاضر والمستقبل.
الرسائل البلاغية الظاهرة
الافتتاحية تبدأ ببناء سردي يقدّم المواجهة في فلسطين كحربٍ وجودية لا حدود لها، وتضعها داخل خطٍّ ثنائيٍ مبسّط: «الإسلام» مقابل «اليهودية/العدو». هذه القراءة لا تعالج حدثًا محددًا أو سياقًا محليًا معقّدًا، بل ترفع الصراع إلى مستوى مقدّس يستبعد أي وساطات أو حلول سياسية. بتلك الطريقة يتحول العنف من نتيجة للصراع إلى ظاهرة مشروعة ذات بعد أخلاقي — بحسب المنبر — تستدعي ردّ فعلٍ دينيًا وعقيديًا لا مجرد ردٍّ سياسي أو إنساني.
الخطاب البلاغي في النص يعمل على تحريك عواطف الجمهور لا العقل؛ يستخدم صياغات تُثير الغضب وتستنهض مشاعر الواجب الديني تجاه «الأرض والمقدّسات». هذا النمط الخطابي يهدف إلى تحويل الحزن والاستياء الشعبي إلى دوافع فاعلة، فتُصبح الدعوات إلى المقاومة والعنف مبررات أخلاقية بدل أن تكون قراراتٍ عقلانية متروية. النتيجة: جمهورٌ متحمّس ومعرّض للانخراط في أفعال عنفية تفتقد لأي تخطيط سياسي واضح أو تقدير للعواقب.
من خلال تبنّي ثنائية الضحية/الجلاد، يرسّخ النص رؤيةً قطعيةً للمشهد: الفلسطينيون ضحايا مطلقون، والحكومات العربية والغربية متواطئة أو خائنة. هذه التصنيفات البسيطة تُسهّل استهدافًا مزدوجًا - داخليًا وخارجيًا - إذ تُبرّر أعمالًا ضدّ «حُراس الحدود» المحليين بقدر ما تبرّرها ضدّ الخصوم البعيدين، وتُضعف أي نقاش داخلي أو نقد محلي باعتباره خيانة أو تبريرًا للعدو. ذلك يُسهِم في تفجير الجدل الداخلي وتقطيع الأنسجة المجتمعية.
الافتتاحية لا تكتفي بالخطاب السياسي، بل تستدعي مرجعيات دينية وتاريخية لإضفاء شرعية فقهية على ممارسات عنيفة. استحضار نصوص دينية أو عبارات شرعية في هذا الإطار ليس مجرد عنصر بلاغي، بل تكتيك لإضفاء غطاءٍ تعبويّ يحوّل الدوافع الاجتماعية والسياسية إلى «واجبٍ ديني». تحويل المشكلة إلى مسألة عقائدية يصعّب مساءلة الوسائل والنتائج، ويضع القرّاء في موقع الملتزم شرعيًا لا النقاش السياسي.
النتيجة الخطابية تتجاوز حدود التعبئة لحظيًا؛ فهي تعمل على إنتاج خطاب دائم يُعيد إنتاج العداء ويغذّي الدافع للتصعيد المستمر. عبر هذه الآليات البلاغية — التأطير الديني، التعبئة العاطفية، تبسيط الأدوار، والاستناد إلى الشرع — ينتج المنبر بيئةً إعلاميةً معادية للحلول الوسط، وتصبح أي مبادرة تفاوضية أو سلمية مرفوضة أو موصوفة بالخيانة. بهذا المعنى، الأثر ليس فقط تحريضيًا آنياً بل تأسيسيًا لصالح منطق يستمر في تأجيج الصراع.
الرسائل المسكوت عنها (الصمت الاستراتيجي)
الصمت الأول في الافتتاحية يتجلّى في تجاهل واضح لمعاناة المدنيين غير الفلسطينيين والأقليات المتضرّرة. النص يقدّم المشهد كوقائع ثنائية — ظالم ومظلوم — لكنه يتخطّى تسجيل الخسائر الإنسانية المركّبة التي تتجاوز الهوية الفلسطينية وحدها، ويهمّش التساؤلات الأخلاقية حول تأثير العنف الجماعي على سكان مدنيين أبرياء من خلفيات دينية أو عرقية متعددة. هذا التجاهل لا يقتصر على اختصار الوقائع؛ بل يفرغ الخطاب الديني من أبعاده الإنسانية ويحوّله إلى أداة انتقائية للحشد.
الصمت الثاني يتعلق بالجوانب اللوجستية والتنظيمية: الافتتاحية تعبّر عن دعوات تحرّضية وعاطفية من دون أن تفتح ملف الكلفة العملية لأي عمل مسلَّح—من التخطيط والتمويل إلى المخاطر والنتائج الميدانية. القارئ لا يُعدّ لمعرفة ما تعنيه «الاستجابة» على أرض الواقع؛ فلا نقاش عن احتمالات فشل العمليات، ولا عن تبعاتها على المدنيين، ولا عن الإمكانيات الحقيقية لتنفيذ هجمات منظمة. هذا الفراغ المعلوماتي يحوّل الحماسة الدينية إلى رغبة خام بلا وعي بتبعاتها.
الصمت الثالث يخصّ التحليل التكتيكي للعواقب الإقليمية بعيدة المدى. الافتتاحية تتجنّب معالجة سيناريوهات قد تؤدّي إلى تقويض الحاضنة الشعبية أو إلى تشديد القيود الأمنية من قبل الأنظمة، بل وتمترسها في سردية الانتصاب الأخلاقي التي لا تلتفت إلى ردود الفعل الدبلوماسية أو إلى تصاعد موجات القمع الداخلية. الإغفال هنا يجعل الدعوات إلى العنف تبدو كحلّ فوري ومباشر، بينما الواقع قد يحمل نتائجٍ من شأنها إضعاف المشروع السياسي والاجتماعي الذي يُدّعى الدفاع عنه.
النتيجة المجتمعة لهذا الصمت الاستراتيجي هي وعد تعبوي بلا تقدير للعواقب: جمهورٌ يُغذَّى عاطفيًا ويُحفَّز على العمل، لكنه يظل محرومًا من قراءة موضوعية لمسار الحوادث وتبعاتها. ومن منظور صحفي وأخلاقي، هذا النمط من الصمت ليس محايدًا، بل هو صناعة لثغرات معرفية تُسهِم في استدامة حلقة العنف وإطفاء فرصة النقاش العقلاني حول بدائل سياسية وإنسانية.
الأهداف الاستراتيجية للافتتاحية
الافتتاحية تبدو في المقام الأول أداة تحشيدية؛ فهدفها الأساسي تجنيد النفوس المتأجّجة وتحويل سخط الجمهور على واقعة إنسانية إلى طاقة عمل مباشرة. لا يقتصر هذا التجنيد على الدعوة الشفوية بل يتضمّن تهيئة مناخ أخلاقي يقدّم الانخراط في العمل المسلّح كخيار واجب ومبارك؛ ما يسهّل على المنفردين أو الخلايا الصغرى أن يستلهموا نصوصًا تبرّر أعمالًا منفردة أو هجومية دون الحاجة إلى بنى تنظيمية محكمة. من الناحية الإعلامية، تعمل الافتتاحية كقناةٍ اتصالٍ فعّالة توجه الرسائل إلى الجماعات الهامشية وتحوّل الألم الجماعي إلى دعوة للتفاعل الميداني.
ثانيًا، ثمة هدف استراتيجي واضح يكمن في تفكيك شرعية الأنظمة العربية المحلية والإقليمية. صياغة الحكومات كحُراسٍ لحدود العدو أو كمتواطئين مع قوى معادية هي رسالة تهدف إلى زرع الشكّ في ولاء المؤسسات الرسمية وتقويض ثقة الجمهور بها. هذه الإستراتيجية لا تسعى فقط إلى إضعاف الأجهزة السياسية، بل إلى خلق فراغ شرعي يمكن لخطابٍ متطرف أن يستغله كبديل للدولة أو كمصدر سلطة بديل لدى قطاعات من المجتمع الغاضب.
ثالثًا، تستهدف الافتتاحية إعادة إنتاج إطار الصراع بوصفه صراعًا حضاريًا دائمًا لا حدثًا ظرفيًا عابرًا، وهو ما يمنح هذا الخطاب زمنًا أطول وصلاحية دائمة. تحويل الحدث العابر إلى رواية حضارية مستمرة يعمل على تمديد دورة التعبئة، ويجعل من خطاب التنظيم خيارًا ذا جذور أيديولوجية متجدِّدة لدى من يشعر بالغبن أو الظلم. النتيجة أن القضية لا تُدار كأزمة قابلة للحل السياسي بل تُنحت كمشروع طويل الأمد يتطلب «استمرار المقاومة» بكل أشكالها.
أخيرًا، تتضافر هذه الأهداف لتشكّل منظومة خطابية متكاملة: تجنيد داخلي، تشويه لشرعية الخصم المحلي، وتثبيت أُطر تفسيرية مدروسة للحدث. من وجهة نظر تأثيرية، هذا المزيج لا يخدم مجرد إشعال غضبٍ عابر، بل يحاول بناء قاعدة شعبية، إعادة تشكيل المواقف تجاه الدولة والمجتمع، وإطالة أمد الصراع عبر شرعنة الاستجابة العنيفة كخيار مستمر. لذلك فإن الردّ على هذه الرسائل يتطلب سياسات إعلامية ومجتمعية مدروسة تستعيد خطابًا إنسانيًا وسياسيًا موضوعيًا وتعيد رسم الحدود بين النقد المشروع والدعوات التحريضية.
الآثار المحتملة إقليمياً وعالمياً
أول الآثار المحتملة يتجسد في احتمال تسهيل وقوع هجمات «مستوحاة إعلاميًا». فقد أظهرت تقارير مراكز متخصصة في رصد الدعاية أن خطابات مشابهة في أعداد سابقة أسهمت في تحفيز «الذئاب المنفردة» على التحرك في أوروبا وأماكن أخرى. هذا النمط يُلقي بظلاله الثقيلة على أجهزة الأمن التي تجد نفسها أمام تحديات معقّدة، حيث يصعب التنبؤ بمن قد يتأثر بالرسالة، ومتى وكيف يترجم قناعته إلى فعل عنيف. النتيجة المباشرة تكون غالبًا تصعيدًا في الإجراءات الأمنية وردود فعل عنيفة من السلطات، بما يزيد حدة المواجهة ويضاعف التوتر.
ثانيًا، هذا النوع من الخطاب يحمل آثارًا سلبية على مستوى الجهود الدبلوماسية. عندما يجري تصوير الدول العربية أو الوسطاء الدوليين كخونة أو شركاء للعدو، فإن ذلك يخلق بيئة مسمومة تضعف فرص أي تسوية سياسية أو محاولات لفتح قنوات تفاوض. وفي بعض الحالات، قد يدفع هذا الضغط الحكومات إلى تشديد سياساتها الأمنية أو حتى اللجوء إلى أدوات قمعية، ما يترك انعكاسات مباشرة على الحريات المدنية ويؤدي إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي والسياسي في المنطقة.
أما على المستوى الإعلامي والاجتماعي، فإن الخطاب القطبي المتشدد يعمّق حالة الاستقطاب داخل المجتمعات المسلمة. بدلاً من فتح مساحات للنقاش العقلاني والتعددية، يعزز هذا النوع من الرسائل الانقسام الحاد بين من يرفضون التطرف ومن قد يجدون فيه إطارًا مفسِّرًا لمظالمهم الشخصية. في هذه الحالة، يصبح الخطاب المتطرف نفسه عاملًا رئيسيًا في إعادة إنتاج العنف، حيث يغذي دوائر مغلقة من التحريض والتعبئة تجذب الأفراد المهمّشين.
وبصورة أوسع، فإن استمرار هذه الدورة يؤدي إلى مشهد إقليمي وعالمي أكثر تعقيدًا. تتشابك فيه الضغوط الأمنية مع الانسداد السياسي، وتتراجع فيه فرص بناء خطاب بديل يوازن بين الأمن والحرية. وفي غياب مواجهة فكرية متوازنة، قد يجد الخطاب المتطرف بيئة خصبة لإعادة إنتاج نفسه، ما يهدد بزيادة العنف وإطالة أمد الأزمات بدلًا من احتوائها.
قراءة نقدية للأثر الأخلاقي-الخطابي
الافتتاحية تكشف عن مفارقة أخلاقية لافتة، إذ تمارس نوعًا من «الاستثمار الأخلاقي» في المعاناة الإنسانية، فتستخدم مشاهد الألم والضحايا كأداة تبريرية لإضفاء مشروعية على العنف. هذا الأسلوب يخلط بين البعد الإنساني البحت، الذي يستدعي التعاطف والمساندة، وبين الحسابات الإيديولوجية والسياسية الضيقة، ليحوّل المأساة إلى ذريعة تنظيرية لممارسات تمسّ جوهر القيم الإنسانية والشرعية العالمية.
من زاوية خطابية، تقوم الافتتاحية بإعادة صياغة المأساة كـ«مشروع تعبوي» أكثر من كونها واقعة تحتاج إلى حلول إنسانية أو سياسية. فهي تُجرّد الحدث من سياقه الواقعي وتحيله إلى مادة دعائية تبرّر مزيدًا من المواجهة. هذه العملية لا تكتفي بتأجيج الغضب، بل تعمل على إغلاق المجال أمام أي نقاش عام يمكن أن يفضي إلى التهدئة أو بناء مسارات سياسية أكثر عقلانية. والنتيجة أن الحوار الاجتماعي يتحول إلى ساحة استقطاب متزايد بدلًا من أن يكون أداة لتفكيك التوتر.
اللافت في هذا السياق أن تنظيم «داعش»، الذي يتخذ من مثل هذه الافتتاحيات وسيلة لتبرير خطاب «المقاومة»، لم ينفذ عملية واحدة لصالح القضية الفلسطينية منذ ظهوره. ورغم رفع شعارات «الدفاع عن الأمة» و«تحرير المقدسات»، فإن سجله العملي يخلو من أي فعل مباشر يترجم تلك الشعارات. هذا التناقض بين الخطاب والواقع يكشف أن الهدف الأساسي ليس حماية فلسطين أو نصرة شعبها، بل استثمار رمزية القضية في تجنيد الأنصار وتبرير العنف في ساحات أخرى.
بهذا المعنى، يصبح البعد الأخلاقي في خطاب «داعش» مجرد أداة خطابية، لا جوهرًا حقيقيًا. إذ بينما تُستخدم القضية الفلسطينية كرافعة دعائية لشرعنة العنف، تُترك معاناة الفلسطينيين بلا أثر عملي من جانب التنظيم. هذه الهوة بين القول والفعل تُظهر أن المشروع الحقيقي للتنظيم ليس تحرير الأرض أو إنصاف الضحايا، بل إنتاج خطاب تعبوي يمدّد عمره السياسي ويعيد إنتاج شرعيته المفقودة على حساب القيم الإنسانية المشتركة.
توصيات عملية قصيرة لردّ الفعل
تعزيز روايات مضادة إنسانية ومهنية: تحتاج المؤسسات الإعلامية والمدنية إلى بلورة خطاب مضاد يضع الحماية الإنسانية في صدارة الأولويات، لا كأداة تزيين بل كمنطق واضح في كل تغطية ومبادرة. ذلك يتطلب إنتاج مواد إعلامية قصيرة وواضحة تركز على قصص الضحايا والعائلات، تبرز معاناة المدنيين بكل طيفهم وتفسّر لماذا لا يجوز استغلال هذه المعاناة لأهداف سياسية أو تعبئية. كما ينبغي تدريب الصحافيين ومنصات التواصل على إرشادات مهنية ـــ مثل تمييز المادة الإخبارية عن الرأي الدعائي، والتحقق من المصادر، وعدم نشر صور أو بيانات قد تُحفّز العنف ـــ وإطلاق حملات إعلامية مشتركة مع منظمات حقوق الإنسان لرفع الوعي المدني حول خطورة خطاب الكراهية.
مراقبة ذكية للمحتوى التحريضي وفصل واضح بين التغطية والدعائية: على صانعي القرار تفعيل آليات رصدٍ احترافية للمحتوى التحريضي تعمل بتعاون بين الإعلام والقضاء والأجهزة السيبرانية، لكن ضمن ضوابط قانونية تحمي حرية التعبير. المقاربة الناجعة ليست مقصّرة الحريات بل تمييز المواد الدعائية المسعورة عن التغطية الإنسانية، وإصدار إنذارات وإجراءات استهداف المنصات والمصادر المتكررة بنشر التحريض (حجب مؤقت، إزالة المحتوى، إحالة للنيابة عند التجاوز الجنائي). كما يجب نشر بروتوكولات شفافة توضح متى ولماذا يُمنع محتوى معين لتقليل ممارسات القمع التعسفي وإبقاء العمل في إطار القانون والديمقراطية.
بناء مقاومة مجتمعية عبر قيادات دينية ومدنية موثوقة: إشراك رموز دينية وطنية ومجتمع مدني واسع لإعادة تأطير النصوص الشرعية في سياق إنساني ومنهجي، وإصدار بيانات فقهية واضحة تفضح تفسير العنف كحلّ شرعي. يمكن تنظيم ندوات ومبادرات مشتركة بين شيوخ معروفين بالمصداقية ومنظمات حقوقية لحوار مفتوح مع الشباب، وإعداد مواد مسموعة ومقاطع فيديو تفسّر بدائل الفعل العنيف وتعرض آليات المشاركة السياسية والإنسانية الواقعية لدعم الفلسطينيين (إغاثة، ضغط دبلوماسي، حملات تضامن قانونية). هذه المقاومة المجتمعية تُضعف نفاذ الخطاب المتطرف إلى الجمهور وتستعيد أرضية النقاش العقلاني.
تعاون دولي ذكي يحترم الحقوق ويكسر شبكات الدعاية: مواجهة الدعاية العابرة للحدود تتطلب تبادلًا استخباراتيًا وتقنيًا حول أنماط التجنيد ومنابر الإلهام، إلى جانب شراكات مع شركات التكنولوجيا للحد من انتشار المحتوى التحريضي. ولكن على الحكومات ضمان آليات رقابة شفافة ومُراجعَة قضائية لحماية الحقوق الأساسية. إضافة لذلك، دعم مبادرات دولية لتمويل البرامج المجتمعية والتعليمية التي تعالج الأسباب البنيوية للهامشية والاحتقان، لأن الحل الأمني وحده لا يكسر دورة التجنيد؛ بل لا بد من مقاربة شاملة تجمع بين الأمن، التنمية، والحوارات الدينية-المدنية.
خاتمة
تمثل افتتاحية النبأ في عددها الأخير نموذجًا صارخًا لاستغلال المعاناة الإنسانية وتحويرها إلى مشروع دعائي. فهي تستخدم دماء الضحايا ومعاناة غزة وقودًا لإنتاج خطاب لا يقدّم أي حلول عملية، بل يسعى إلى إشعال الغضب وتحويله إلى طاقة عنف عابرة للحدود. المفارقة أن «داعش»، الذي يرفع شعار الدفاع عن فلسطين، لم ينفذ عملية واحدة لصالح قضيتها منذ نشأته، ما يكشف التناقض بين الشعارات والواقع.
هذا التناقض يعيد طرح سؤال جوهري: هل الهدف نصرة الفلسطينيين فعلًا أم استثمار رمزية قضيتهم؟ الوقائع تقول إن التنظيم يوظف المأساة في غزة كما وظّف غيرها من الأزمات، لمدّ عمر خطابه وتبرير العنف في ساحات أخرى. إن ما يقدَّم كـ«واجب ديني» ليس سوى وسيلة لإنتاج خطاب شرعي زائف، يُبقي الجمهور في حالة استقطاب دائم ويغلق الطريق أمام أي مبادرات سياسية أو إنسانية.
إن مواجهة مثل هذا النمط من الدعاية لا يمكن أن تتم بردود فعل أمنية فقط، بل تتطلب جهدًا مركبًا: روايات إعلامية مضادة تركز على القيم الإنسانية، مبادرات مجتمعية تعيد الشرعية إلى الخطاب الديني المعتدل، وآليات دولية تحاصر شبكات الدعاية العابرة للحدود. المعركة في جوهرها ليست حول غزة وحدها، بل حول كيفية حماية المأساة الإنسانية من أن تتحول إلى سلعة دعائية بيد تنظيمات لا يعنيها سوى البقاء والاستمرار.