في بلد تعرف قيمة الخط واللون، ظلّ الفنان التشكيلي حمدي عبد الله يراوح بينهما مقدما لوحات يتقاطر منها اللون والحبر في جمال فريد واستثنائي. حيث رأى عبر مسيرته أن الخط العربي يعد أكثر من أداة، رأى فيه كائنًا حيا. ولعلّ الفنان التشكيلي حمدي عبد الله الذي تقيم له قاعة أفق معرض (سيرة ومسيرة) لم يكن يومًا مجرد رسام يزيّن جدران المعارض، بل كان، وما زال، أحد أولئك العارفين الذين صهروا الفن والتربية والمعنى في فرنٍ واحد، ليصوغوا منه هوية بصرية نادرة، تُجيد الإصغاء إلى اللون والحرف.
ولد حمدي عبد الله عام 1944، حين كان الفن لا يزال لغة نخبة محدودة، وحين كانت التربية الفنية تُعد من الكماليات. لكنّه شقّ طريقه بعناد محب، فتخرّج في كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، ثم واصل دراساته العليا حتى نال الدكتوراه. لم يكن طموحه الأكاديمي معزولًا عن روحه الفنية؛ بل ظلّ يدمج بين الأمرين في سعيه لتأسيس مدرسة، لا بمعناها المؤسساتي، بل بمعناها الفلسفي، مدرسة تقف في منطقة وعي دقيقة بين الأصالة والتجريب.
في تجربته التشكيلية، تنصهر الخطوط السوداء على بياض الورق كما لو كانت تشقّ طريقًا في الزمن. لا يهتم حمدي عبد الله بالزخرفة ولا بالإبهار، لكنه يشتغل على الحافة الدقيقة بين التبسيط والتكثيف، كأن كل لوحةٍ منه، وكل أثرٍ من فرشاته، هو محاولة للقبض على الروح، لا على الشكل. إن خطوطه لا تحاكي شيئًا خارجيًا، بل تعيد خلق الداخل، ولذلك تبدو أعماله وكأنها مرآة أبدية للوجدان العربي.
لذلك حين عُرضت مجموعته "شفرة بصرية"، بدا وكأنها بيان بصري مكتوب بلغة الرموز، يشبه برديّة مصرية قديمة أعيد بعثها. لم يكن المعرض احتفاءً بالشكل، بل تأملًا في المعنى، في ما تخفيه الأشكال حين تُخلّى من زينتها، ويُترَك لها أن تبوح بسرها، بهدوء.
ثمّة جرأة كبرى في هذه البساطة، إذ لا شيء أصعب على الفنان من أن يختزل. أن يتخلّى عن فائض اللون، عن غواية الامتلاء، عن حِيَل المضمون الفجّ، ويكتفي بخط، بخربشة واحدة، كأنها أثر صمتٍ طويل على جدار الذاكرة. وفي هذا المعنى، فإن تجربة حمدي عبد الله هي جزء من مشهد نادر لفنانين تشكيليين آمنوا أن التراث العربي، إذا ما قُرئ بعينٍ حديثة، قد يبوح بأسرار لم تُكتشف بعد.
لقد جعل من الخط العربي ليس فقط مكوّنًا فنيًا، بل بطلًا دراميًا، له تاريخ، ونبرة، وكأن كلّ حرفٍ هو شبحٌ يستعيد عبق الحضارة، لا ليمجّدها، ولكن ليواجه بها الحاضر.
لم يكتفِ حمدي عبد الله بالتشكيل وحده، وإنما مارس فعل التكوين. حين ترأّس قسم التصميم الداخلي بكلية التربية الفنية، وحين أسس متحفًا داخل الكلية، وحين أنشأ أول مشروع لتبادل الفنانين العرب، كان يؤمن أن الفن ليس "عرضًا"، بل بيئة. أن الجمال لا يولد في صالات العرض بل في الورش، في الفصول، في اللقاءات العفوية بين تلميذ وورق.
وبينما ينشغل الآخرون بالأضواء والجوائز، ظلّ هو يشتغل بصمت، حتى صارت لوحاته تراهن على الزمن. ففي معرضه الاستعادي الضخم، الذي ضمّ أكثر من 400 عمل، كان كلّ عملٍ بمثابة فصلٍ في سيرة ذاتية لا تُروى بالكلمات. كل لوحة تقف شاهدة على مرحلة، على اكتشاف، على نضجٍ بصريّ مدهش، كأنّ الخطوط لا تنضج مع الزمن، بل مع الألم.
ولأن للفن ذاكرة، ولأن الأصالة لا تموت، فقد نال مؤخرًا جائزة الروّاد من جامعة حلوان، في تكريم بدا وكأنه اعتذارٌ مؤجّل لأن البعض لم يعرف كيف يستوعب فكرته عن أن الفنّ لا يكون إلا حين يصير فعل حبٍّ للمكان، وللإنسان.
وفي معرضه الحالي «سيرة ومسيرة» بقاعة أفق في متحف محمد محمود خليل، يتجلّى الفنان لا في ذروة عطائه فحسب، بل في عمق تجربته، كأنه يقدّم لنا خريطة مائية لتاريخ الفن المصري الحديث، ولكن بريشةٍ تحمل رماد الحلم.
إن تجربة حمدي عبد الله لا يمكن تأطيرها في مدارس فنية محددة. لقد تجاوز الحداثة، ولكنه لم ينكرها. اقترب من السريالية الرمزية، لكنه احتفظ بقدسية الفن الشعبي. كما لو أنّ أعماله تقول لنا: لا تُقارنني بأحد. أنا ابن هذا المكان.
في أعماله يبدو حمدي عبد الله شاهدًا نادرًا على عصرٍ كان الفن فيه أشبه بفريضة روحية. خطّه الأسود على بياض اللوحة لا يعبّر فقط عن فلسفة بصرية، ولكن عن قناعة وجودية: أن الجمال يبدأ حيث يبدأ الخط. وحيث ينتهي القول، يبدأ الفن. وحيث تتوه اللغة، ينهض الرسم.
فليكن اسمه إذًا، كما لوحاته، علامة لا تمحى. ولنعد نحن، نحن الذين نبحث عن شيء نصدّق به هذا العالم المليء بالحروب وبالقسوة، إلى هذا الخطّ الذي يشبهنا أكثر مما نعرف.