بين ألسنة النار، وصوت الطرقات على الحديد، تختبئ حكايات رجالٍ عشقوا المهنة حتى أصبحت جزءًا من هويتهم. واحتفالًا بعيد العمال، التقت "البوابة نيوز" أحد هؤلاء الرجال.. محمد عبد الرحمن، حداد من أبناء محافظة الدقهلية، اختصر رحلته مع المهنة في جملة واحدة: "أنا والحدادة عشرة عمر."
بملامح خمسينية أرهقها الكفاح، بدأ عبد الرحمن حديثه قائلًا: "عمري خمسين سنة، وبدأت أشتغل في حدادة البناء من عشرين سنة تقريبًا." ورغم التحاقه بالتعليم الصناعي وحصوله على دبلوم، فإن شغفه الحقيقي لم يكن في الشهادة، بل في الحديد والنار، كما يصفها.
الشرارة الأولى
يعود بذاكرته إلى اللحظة التي خطفت فيها المهنة قلبه، حين رأى بعض أصدقائه يعملون بها. "كنت بشوف الجيران والأصحاب بيشتغلوا حدادين.. فضولي شدني، ولقيت نفسي بتعلم وبحبها." عشق المهنة بدأ من الحيّ، ومن بين أصوات المطارق وتبادل الخبرات تحت أعمدة البناء.
رحلة العمل تحت الشمس
يشرح عبد الرحمن خطوات عمله قائلًا: "ببدأ بعد ما النجار يخلص شغله، أشتري الحديد حسب الرسومات، وابدأ أقطعه وأشكله حسب تصميم المهندس، وبعدين أنفذه على أرض الواقع." أما عن الأجر، فيؤكد أن يوميته غير ثابتة: "على حسب الاتفاق مع المقاول، بتتراوح من 400 لـ500 جنيه في اليوم."
العمل في الصيف كما يصفه "عبد الرحمن" تحدٍ من نوع خاص: "الشغل في الحر نار.. الحديد نفسه بيكون مولع، بس إحنا اتعودنا، نص عمرنا في المهنة."
تفاصيل من عمق الحرفة
باحترافية واضحة، يسرد عبد الرحمن تفاصيل العمل: تسخين الحديد، صهره، تشكيله، استخدام الأدوات اليدوية والكهربائية كالمطارق والمخارط والمثاقب، واللحام، وحتى صب القوالب المعدنية. "مش بس بنبني.. إحنا بنصلّح، ونشكّل، ونزيّن.. من أبواب زخرفية لنوافذ، والمهنة فيها فن زي ما فيها تعب."
عن عيد العمال.. وواقعه الحقيقي
بسخرية هادئة يعلّق على الأول من مايو: "إحنا بنشتغل عادي جدًا.. العيد ده مستورد علينا، ما بنحتفلش بيه، ولا في تغيير." ويضيف أنه وزملاءه يرون في هذا اليوم مناسبة لا تُذكر فيها مطالبهم، ولا يُلتفت إلى أوضاعهم.
مطالب من نار
في حديثه لـ"البوابة"، يوجّه عبد الرحمن مطالب واضحة، تبدأ بإنشاء نقابة حقيقية للحرفيين في محافظة الدقهلية، تشمل الحدادين والنجارين وغيرهم من أصحاب الحرف اليدوية، لتكون صوتهم في وجه الغلاء والمعاناة. كما يشير إلى أن التأمينات الخاصة عبء ثقيل، ويتمنى أن تتحول إلى تأمينات حكومية مدعومة.
ويطالب أيضًا بإجراء حصر شامل للعمال والحرفيين، وانتخاب رؤساء لكل حرفة يتحدثون باسم زملائهم ويعرضون مشكلاتهم ومطالبهم: "يبقى في رئيس للحدادين، ورئيس للنجارين.. كل واحد يحكي عن تعبنا وهمومنا، ويوصل صوتنا."
كلمة أخيرة
محمد عبد الرحمن ليس مجرد حداد، بل صورة من آلاف الصور التي ترسم ملامح هذا الوطن. وبين مطرقة الحديد وسندان الظروف، يواصل رحلته اليومية، لا يبحث عن عيد بقدر ما يطلب كرامة، وتأمين، وصوت يُسمع.
