في عددها 502 الصادر في 4 يوليو 2025، تعود صحيفة النبأ الناطقة باسم تنظيم "داعش" لتضع الجهاد على منصة التنظير من جديد، لكنها هذه المرة تعيده إلى صيغة تبجيلية ذات طابع وجودي ميتافيزيقي يختلط فيه التعبد بالحرب، والفناء بالخلود، والبطولة بالاحتراق الكامل.
واللافت أن هذا الطرح لم يعد موجّهًا فقط إلى جمهور "الدولة" التقليدي في المشرق العربي أو شمال إفريقيا، بل يأخذ طابعًا شموليًّا عابرًا للقارات، يستهدف أوساطًا جديدة، وعلى رأسها الهند وشبه القارة الهندية التي باتت إحدى ساحات التجنيد والتعبئة الأكثر نشاطًا لدى التنظيم.
السياق الزماني والدلالي
تأتي افتتاحية العدد 502 من صحيفة النبأ في سياق حساس يشهد انحسار قدرة تنظيم داعش على شن عمليات واسعة النطاق، وتزايد اعتماده على تكتيكات "الذئاب المنفردة" وضربات الاستنزاف الفردية المعزولة. لكن المثير أن النص لا يواكب هذا الواقع المتغير بخطاب تعبوي واقعي ميداني، بل يذهب إلى إعادة إنتاج "فلسفة الجهاد" من منظور قدسي، حيث لا يعود الجهاد مجرد واجب عسكري أو وسيلة نصر، بل يتحول إلى عقيدة سلوكية، و"أخلاقية وجودية"، يتجاوز بها المجاهدُ الواقع، ويجسد بها أرقى مراتب السمو والافتداء، وكأن الفعل الجهادي بات غاية في ذاته، لا وسيلة ضمن مشروع سياسي أو عسكري.
بدلًا من أن يعكس الخطاب طبيعة العمليات الجارية أو التحديات التي يواجهها التنظيم، يعمد كاتب الافتتاحية إلى إنتاج صورة متخيّلة للمجاهد، مأخوذة من أدبيات الحنين إلى الماضي الذهبي. تُستحضر بطولات الصحابة وأقوال خالد بن الوليد وعمير بن الحمام وسهيل بن عمرو، لتُضفي على "المجاهد الجديد" صفات البطل الأسطوري، الذي يقدّم جسده قربانًا ويهرول نحو الشهادة من دون تردد، في لحظة شديدة الاغتراب عن معطيات الحاضر. هذا الاستخدام المكثف للرموز التاريخية لا يخلو من وظيفة دعائية: إنه يعوّض غياب الإنجازات العسكرية المعاصرة بوفرة معنوية مستمدة من الماضي.
تعتمد الافتتاحية على لغة سلفية جهادية نقية، ترتكز على مفاهيم مثل "علو الهمة"، و"تطهير القلب"، و"الزهد في الدنيا"، مما يجعل المجاهد لا مجرد محارب، بل ناسكًا محاربًا. يُقدَّم الجهاد كاختبار فردي أخلاقي، ينفصل فيه الإنسان عن المجتمع المتخاذل والمادي، ويصعد في سلّم النخبة المختارة. إن هذه الصورة المشحونة لا تهدف فقط إلى التحفيز، بل إلى صناعة وعي نخبوي يشعر فيه المقاتل أو من يتهيّأ للجهاد، أنه "مختار من الله"، يحمل رسالة لا يفهمها من حوله، بل يحتقرونه ويقفون ضدها. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: الفصل الرمزي الكامل بين المجاهد والعالم.
في ظل تراجع سيطرة داعش على الأرض، والانكماش في عملياتها الكبرى، يعتمد هذا النوع من الخطاب على استراتيجية نفسية تعرف بـ"السمو فوق الهزيمة". فبدل أن يعترف التنظيم بتراجعه أو ينخرط في مراجعة، يعيد تعريف النجاح على أساس رمزي – المجاهد لا يُقاس بما ينجز عسكريًا، بل بما يضحي به، حتى لو انتهى قتيلًا دون أثر. هذا يبرر النمط الحالي من العمليات الفردية العشوائية، ويضفي عليها شرعية بطولية، ويمنح أصحابها إحساسًا بالانتماء إلى مشروع "روحي" أكبر من الأرض والسياسة.
دلالات الخطاب وتكتيك الإحياء الرمزي
تكشف افتتاحية النبأ (502) عن محاولات واعية من تنظيم داعش لإعادة إنتاج سرديته الجهادية عبر خطاب رمزي مشحون بالقيم الأخلاقية والدينية العليا. فمع تراجع التنظيم ميدانيًا، لم يعد يمتلك أدوات التأثير التقليدية القائمة على الإنجاز العسكري، فبدأ يلجأ إلى ما يمكن تسميته بـ"إحياء الرموز"، أي ضخّ المعاني في مفاهيم قديمة لإعادة تعبئتها نفسيًا، وجعلها قابلة للاستهلاك في بيئات جديدة. تتجلّى هذه الاستراتيجية في ثلاث دلالات محورية:
1. محاولة استعادة الشرعية الرمزية
من الواضح أن داعش، بعد سنوات من الانكسارات المتتالية، وخاصة في سوريا والعراق، بات يواجه أزمة في شرعيته بين أنصاره، لا سيما بعد فقدان "الخلافة المكانية" التي شكّلت في وقتٍ سابق ركيزة رمزية ومادية في آن. هذا الانحسار دفع التنظيم إلى مضاعفة الاستثمار في رمزية الجهاد، عبر تصوير "المجاهد" على أنه أيقونة نقاء مطلقة، في مقابل القاعد الذي يُصوَّر كجبان، غارق في الدنيا، خائن للميثاق الإيماني. وهكذا يُعاد تعريف العلاقة بين المسلم وموقعه من الجهاد كمعيار وحيد للتفاضل، وتُستعاد الثنائية القديمة: مجاهد/قاعد – مخلص/متخاذل.
هذه المقارنة ليست عابرة، بل تحمل وظيفة تبريرية للتنظيم؛ فهي تمنحه قدرة على فرض معيار جديد للولاء والانتماء، مستقل عن مخرجات المعركة الواقعية. فإذا كان التنظيم يخسر الأرض، فإنه لا يخسر "الفكرة" طالما أن أنصاره يظلون مؤمنين بنموذج "المجاهد المخلِص"، الذي لا يهم إن انتصر أو انهزم، طالما أنه قدم دمه وبذل نفسه. إنها شرعية غير مشروطة بالنتائج، وهذا بالضبط ما يحتاجه تنظيم مهزوم يحاول البقاء في الوعي لا على الخرائط.
2. إحياء للخطاب الطهوري
تُعيد الافتتاحية إنتاج مفردات الطهرانية الجهادية، التي تقابل بين "علو الهمة" و"الانغماس في وحل الدنيا". هذا النمط من الخطاب يعكس فلسفة سائدة في أدبيات التنظيمات الجهادية، تجد جذورها في كتابات سيد قطب وعبد الله عزام، حيث يُنظر إلى المجاهد باعتباره متطهرًا من شوائب العالم، منصرفًا عن المكاسب، يعيش لأجل "الغاية العليا". لكن في هذه النسخة، يلاحظ تحوّل لافت نحو البُعد الصوفي – المجاهد يُقدَّم ليس فقط كمحارب، بل كزاهد، كأنه ناسك يحمل سيفًا، يعتزل الدنيا لا فقط بسلوكه، بل بنيّته.
هذا الطرح يخدم هدفًا مزدوجًا: فمن جهة، يعطي للمجاهد مكانة روحية عليا، تتجاوز التصنيفات الاجتماعية والسياسية. ومن جهة أخرى، يجعل من الجهاد مسلكًا فرديًا للتحرر من "الدنيوية"، مما يسهل إسقاطه في سياقات متعددة، من الشيشان إلى الهند، ومن كشمير إلى الساحل. فالمجاهد في هذه الرؤية لا يطلب مكسبًا دنيويًا ولا يبحث عن نصر سياسي، بل يسعى إلى إثبات إخلاصه لله، ولو كلفه ذلك حياته. إنها صيغة تبريرية لتسويغ العبث القتالي، وتحويل الموت الفردي إلى عمل روحي سامٍ.
3. التحريض على الخروج من المجتمع
من أخطر ما تنطوي عليه الافتتاحية هو وضع المجاهد في حالة قطيعة تامة مع المجتمع المسلم، الذي يُصوَّر على أنه متخاذل، مادي، خائر الهمة. بل إن النص يلمّح إلى نوع من التكفير الضمني لهؤلاء، عبر استدعاء الآيات التي تتحدث عن تثبيط المنافقين وتخلّفهم عن الجهاد، كما في قوله تعالى: ﴿رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم﴾. هذه النغمة تُعيد إنتاج لحظة 2015–2017، عندما بلغ خطاب داعش ذروة راديكاليته، وكان يُعلن صراحة أن كل من لم يبايع "الدولة" ويتحرك للقتال تحت رايتها، فمكانه النار أو الإبادة.
هذا النوع من التحريض لا يهدد الدولة الوطنية فقط، بل يفكك المجتمع الديني ذاته، ويضرب فكرة الأمة من الداخل. فحين يُقدَّم المجاهد على أنه وحده المؤمن، بينما سائر المسلمين في حالة تخاذل أو نفاق، فإن التنظيم يخلق هوية جهادية فوق الأمة، خارجة عنها، بل معادية لها. وهذا ما يفسر كيف أن كثيرًا من المجندين الجدد يُعاد تشكيل وعيهم بدءًا من "القطيعة" مع الأسرة، والمسجد، والمؤسسة الدينية، وصولًا إلى الاندماج الكامل في الجماعة الجهادية كمجتمع بديل.
الرسائل المسكوت عنها وتحولات التمدد
ليست افتتاحية النبأ في عددها 502 مجرد خطاب ديني مكرور عن فضائل الجهاد وعلو الهمة، بل هي وثيقة استراتيجية تحمل في طياتها رسائل خفية، تتجاوز ما يُقال صراحة، إلى ما يُلمَّح به ويُراد له أن يُفهم في سياقات توسع التنظيم. فالمهم في هذا النوع من الخطاب ليس فقط "ما يُقال"، بل "لمن يُقال"، و"كيف يُقال"، وما الذي يُراد إيصاله دون إعلان مباشر. وإذا تمعّنا في لغة الافتتاحية وبنيتها الرمزية، اتضح أنها تحمل توجيهات ضمنية موجهة إلى جمهور جديد يتشكل خارج حدود العالم العربي، وعلى وجه الخصوص في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، حيث تشهد أذرع التنظيم، كـ"ولاية خراسان – الهند"، حالة نشاط غير مسبوق.
1. تلميح باستبدال الجمهور العربي بجمهور آسيوي
من الواضح أن الخطاب لم يُصَغ على مقاس جمهور عربي تقليدي مطّلع على سرديات التنظيم ومحنه السابقة، بل يبدو وكأنه يخاطب جمهورًا جديدًا لم يعايش تلك التفاصيل، ويحتاج إلى بناء رمزي أولي يخلق له إحساسًا بالانتماء والرسالة. تظهر هذه السمة من خلال كثافة الاستشهاد بالآيات والقصص الأولية للمجاهدين الأوائل، وكأن النص يؤسس مجددًا "أسطورة البدء"، ويعيد بناء المعجم الديني والروحي من الصفر، وهو أمر لا يحتاجه المقاتل العراقي أو السوري السابق، بل يلزم الشاب المسلم في كشمير أو آسام أو البنغال، الذي بدأ يسمع عن "داعش" بوصفه منقذًا روحيًا لا لاعبًا سياسيًا.
في هذا التحول الدقيق، يمكن قراءة إشارات ضمنية إلى انتقال مركز الثقل في المشروع الجهادي الداعشي من المجال العربي المنهك، إلى مناطق هامشية كانت حتى وقت قريب خارج خريطة التنظيم الأساسية. إن هذه الاستراتيجية تعكس محاولة واقعية لإعادة التموقع، بعدما تآكلت البنية التنظيمية في معاقلها الأصلية، مما يدفع القادة الإعلاميين إلى استنبات هوية جديدة عبر جمهور ناشئ، أكثر تعطشًا للبطولة، وأقل وعيًا بتاريخ الإخفاقات.
2. بناء الهوية الجهادية العابرة للأعراق
يتعمد النص تقديم رموز تاريخية متنوعة من حيث الطبقة والعرق والانتماء، مثل خالد بن الوليد، وبلال الحبشي، وسهيل بن عمرو، وأبو سفيان، ضمن سردية واحدة تُظهِر أن البطولة في الجهاد لا تُقاس باللون أو النسب، بل بالإيمان والبذل. هذا الانتقاء الرمزي ليس بريئًا، بل يخدم هدفًا مهمًّا في بيئات مثل الهند، حيث تلعب الفوارق الطبقية والعرقية دورًا حادًا في تشظي الهوية الإسلامية. فالتنظيم يعرض نفسه كهوية بديلة تتجاوز الانقسامات التقليدية، تُدمج فيها الأعراق والطبقات داخل بنية "الأخوّة الجهادية" المطلقة، حيث لا فرق بين مولى وسيد، ولا بين عربي وعجمي، إلا بدمه المسفوك.
هذا الخطاب يُعد محاولة واعية لاختراق البنية المجتمعية الهندية، التي تعاني من تشظيات قومية ودينية وطبقية عميقة. فعبر استدعاء هذا النموذج العابر للانتماءات، يقدّم التنظيم نفسه كمنظومة إنقاذ أخلاقي وديني، يمكن للمهزوم اجتماعيًا أن يجد فيها اعترافًا ومكانة لا ينالها في مجتمعه، سواء كان من مسلمي الداليت أو من أتباع الطرق المهمشة دينيًا في بيئة مشبعة بالتمييز الطائفي. وبهذا المعنى، يصبح الجهاد بوابة بديلة للصعود، لا فقط في الجنة، بل في الدنيا أيضًا.
3. تلميع الفقر كفضيلة جهادية
إحدى النقاط الأكثر دلالة في النص هي التركيز على "العبد"، و"الفقير"، و"المعتَق"، بوصفهم الطليعة المقدسة في مسيرة الجهاد. في مقابل الرؤوس القريشية التي تُركت على باب عمر بن الخطاب، يُفسح المجال أمام بلال وصهيب وخباب ليكونوا هم السابقين إلى المجد. هذا البناء الرمزي ليس جديدًا في أدبيات الإسلام السياسي، لكنه هنا يُقدَّم بلغة مشحونة بالتحقير غير المباشر للنخب والعلية، وتفضيل للمنكسرين والفقراء بوصفهم الأقرب إلى الله، والأسبق إلى الجنة، والأجدر بحمل لواء الأمة.
يأتي هذا الخطاب في وقت يتصاعد فيه الاستقطاب الطائفي والاقتصادي في الهند، وتحديدًا في الولايات التي يتعرض فيها المسلمون للتمييز والقمع والحرمان من التعليم والعمل. في هذا السياق، يعمل الخطاب على إعادة تأويل الفقر والتهميش لا كمأساة يجب الخروج منها، بل كفضيلة يجب اعتناقها، واعتبارها تمهيدًا للجهاد. إنه خطاب يقدّم الفقر بوصفه مصدر طهر، والحرمان كمدخل للاصطفاء، مما يمنح المستضعفين شعورًا بالتفوق الروحي على الظالمين، ويدفعهم إلى الانتقام من الواقع باسم الله لا الغضب.
أثر هذا الخطاب على تصاعد التطرف في الهند
يتزامن صدور افتتاحية النبأ رقم 502 مع موجة متصاعدة من العنف الطائفي في الهند، يقودها متشددون هندوس، لا سيما في ظل سياسات حكومة حزب "بهاراتيا جاناتا" التي تتبنى خطابًا قوميًّا هندوسيًّا متطرفًا. المسلمون في الهند – خاصة في كشمير وولايات الشمال الشرقي مثل آسام والبنغال – يشعرون بعزلة متزايدة، ليس فقط من الدولة، بل من عموم الفضاء الاجتماعي والسياسي. هذا الواقع القاسي يجعل من أي خطاب يمنحهم إحساسًا بالقوة أو "الاصطفاء" أرضًا خصبة للاستقطاب. وهنا يتسلل خطاب داعش بذكاء، ليقدّم نفسه لا كجماعة إرهابية، بل كنموذج خلاص شخصي وروحي، يُنقذ الفرد من الذل اليومي، ويرفعه إلى مرتبة النخبة المختارة.
في هذا السياق، تغدو مفردات مثل "الهمة العالية"، و"السلعة الغالية"، و"الابتلاء في سبيل الجنة" أدوات تعبئة نفسية حادة. إنها تحوّل الإحساس بالهزيمة والخذلان إلى وقود للانتقام المقدّس، وتُحوِّل الألم الجمعي إلى قصة فداء فردي. هذا النوع من الخطاب يخاطب نفسية الشاب المسلم المهمّش، الذي يرى أن لا قيمة له في عيون الدولة، ولا مكان له في طوائف الهندوس أو في نخبة المسلمين الخانعة. فيجد في "التنظيم" ليس فقط جماعة سياسية، بل بنية اعتراف تمنحه الشرعية، والبطولة، والغاية، في آن واحد. فالانضمام للجهاد هنا ليس مجرد قرار عقائدي، بل فعل استرداد للكرامة.
اللغة الطهرانية التي ينسجها التنظيم في هذه الافتتاحية تضع الجهاد في مرتبة أعلى من كل أشكال الانتماء الأخرى: لا قومية، لا طائفة، لا جنسية، لا حزب – فقط الإيمان والدم والاختبار الصعب. في المقابل، توصف المجتمعات والدول والمؤسسات – بما في ذلك المرجعيات الإسلامية التقليدية – على أنها خاضعة، مهادنة، ملوثة بالدنيا. هذا الخطاب يلقى رواجًا متزايدًا في أوساط المسلمين الهنود الذين فقدوا الثقة في القيادات الدينية والسياسية الرسمية، ويرون فيها أدوات تبرير للظلم أكثر من كونها أصواتًا ناطقة باسمهم. وهكذا، تصبح المؤسسة الدينية التقليدية خصمًا لا حليفًا، ويُعاد تعريف "الطريق إلى الله" خارج أي وساطة أو مؤسسة.
من هنا، فإن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في التحاق بعض الأفراد بالتنظيم، بل في تبنّي خطاباته كمصدر وحيد للهوية والانتماء. فالناشط الجهادي الجديد في الهند قد لا يكون عضوًا رسميًا في داعش، لكنه قد يعتنق هذه اللغة، ويتحول إلى "ذئب منفرد" أو ناقل أيديولوجي للتنظيم داخل مجتمعه، دون ارتباط تنظيمي مباشر. بهذا المعنى، يتحول الخطاب من أداة تعبئة إلى بنية تفكير موازية، تهدد السلم الأهلي وتُنتج التطرف كمسار فردي، لا كخيار مؤسساتي. إنها الطفرة الأخطر في مسيرة التنظيم: أن ينجح في تصدير نمطه النفسي، حتى دون أن يرفع رايته.
لماذا يجب الانتباه لهذا التحول؟
الخطورة في افتتاحية النبأ ليست في مضمونها الدعوي فقط، بل في دلالتها الاستراتيجية: فهي تمثل مؤشرًا واضحًا على انتقال تنظيم داعش من مرحلة التنظيم الجغرافي – القائم على السيطرة الترابية وإدارة الأرض – إلى مرحلة "التنظيم الرمزي"، الذي يعمل على احتلال وعي الأفراد ونفوسهم قبل أن يسيطر على أي منطقة. هذا التحول يعني أن التنظيم لم يعد بحاجة إلى ولاية على الأرض كي ينمو، بل يكفيه خطاب شديد التماسك قادر على التسلل إلى العقول، واستقطاب الأفراد عبر الشعور بالذنب، أو العجز، أو الحاجة إلى "الخلاص". فالمجاهد هنا لم يعد جنديًا في كتيبة، بل حاملًا لفكرة – وهذه الفكرة قابلة للانتشار حتى في أكثر البيئات الأمنية انضباطًا.
إن أكثر ما يلفت في هذا الخطاب أنه "عابر للجغرافيا". لم يعد الحديث يدور حول المعارك في الموصل أو الباغوز أو تدمر، بل عن قيم عامة قابلة للتدوير في أي سياق: "الاصطفاء"، "الزهد"، "الهمة"، "الابتلاء"، "سلعة الله الغالية". وهي مفاهيم لا تُقيدها حدود سياسية، ولا ظروف محلية، بل تُستثمر في بيئات متباينة، من أحياء المسلمين في الهند إلى الأحياء الفقيرة في نيامي، إلى الأطراف الريفية في سريلانكا. بهذا الشكل، تتحول الافتتاحية إلى منصة تصدير رمزي لا تحتاج إلى بنية تنظيمية تقليدية، بل إلى وسائط رقمية، وشباب مهزوم يبحث عن معنى وكرامة، وهو ما يجعل التعامل مع هذه الخطابات أكثر تعقيدًا من مواجهة "التمدد الجغرافي".
جانب آخر من خطورة هذا الخطاب أنه يُعيد بناء الشرعية الجهادية على أنقاض القوى الإسلامية التي انهارت أو تراجعت. فبينما تعاني جماعة الإخوان المسلمين من عزلة سياسية وتآكل داخلي، وتفقد القاعدة تأثيرها في ظل شيخوخة خطابها، تخرج داعش لتقدّم نفسها بوصفها الوريث الأشدّ نقاءً، والأكثر "ثباتًا على العقيدة"، والأبعد عن المساومات السياسية. هذه الحركة الرمزية تهدف إلى ملء الفراغ العقائدي والتنظيمي في أوساط الإسلاميين الحائرين، وإلى استعادة ثقة الجيل الجهادي الجديد عبر سردية ترى أن "الطريق إلى النصر هو الدم لا الكلام"، وهي سردية لا تزال تحتفظ بجاذبيتها عند فئات واسعة من الساخطين والناقمين.
في ظل هذا كله، فإن التجاهل الإعلامي أو الأمني لمثل هذه الخطابات يشكّل ثغرة فادحة. فالنصوص من هذا النوع لا تُقرأ بوصفها مجرد أدوات دعائية، بل بوصفها مؤشرات على تحولات استراتيجية في البنية الجهادية العالمية. إنها رسائل مشفّرة للأنصار والمستقطبين الجدد، ومختبرات لغوية لتجريب أفكار جديدة قابلة للتدوير، وهي تُصاغ بروح استباقية لا انفعالية، وهذا ما يجعلها أخطر من بيانات النصر أو الهزيمة. إننا إزاء تنظيم أعاد صياغة نفسه لا بوصفه دولة، بل كنموذج، وعلينا أن نعيد صياغة مواجهتنا له لا بوصفه "خصمًا عسكريًا"، بل كمنظومة ذهنية تجدد أدواتها باستمرار.
خلاصة
افتتاحية النبأ رقم 502 ليست مجرد نص تعبوي، بل هي مخطط سردي لاستعادة روح التنظيم في بيئات جديدة. إنها تذكرة باتجاه واحد إلى الجهاد، ولكن ليس على طريقة "الدولة الإسلامية" في 2014، بل بطريقة جديدة: جهاد فردي، غريب، رمزي، لا يحتاج إلى الخلافة، ولا إلى السلاح الثقيل، بل إلى "همة" فقط – تلك الكلمة المفتاحية التي أرادها التنظيم بوابة للتسلل إلى قلوب الغاضبين في الهند وما وراءها.