أخبار عاجلة

مصيف اليوم الواحد.. حيلة الفقراء وبهجة المصريين الهاربة من زحام المدينة

مصيف اليوم الواحد.. حيلة الفقراء وبهجة المصريين الهاربة من زحام المدينة
مصيف اليوم الواحد.. حيلة الفقراء وبهجة المصريين الهاربة من زحام المدينة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حين تدق حرارة الشمس أبواب البيوت في شهور الصيف، يهرع المصريون كعادتهم صوب البحر، حتى ولو ليومٍ واحدٍ فقط.. مصيف اليوم الواحد ليس فقط بديلاً اقتصادياً أو «حيلة» للهروب من الأسعار الملتهبة، بل تحول إلى ثقافة كاملة لها طقوسها وأماكنها وروحها الخاصة التي تحمل بصمة مصرية خالصة.

من شواطئ الإسكندرية ورأس البر مرورًا ببلطيم والعجمي وأبو قير، وصولًا إلى بعض شواطئ العين السخنة القريبة من القاهرة، يذهب الناس في رحلة لا تتجاوز 24 ساعة، ليعودوا بذكريات تملأ القلب أكثر مما يملأها الجيب.

كيف وُلد مصيف اليوم الواحد؟

منذ منتصف التسعينيات تقريبًا، ومع تضاعف أسعار الشقق الصيفية والإيجارات اليومية، ظهر مصيف اليوم الواحد كفكرة عبقرية لدى الأسر محدودة ومتوسطة الدخل: نستيقظ فجرًا، نلملم حقائبنا، نركب القطار أو الميكروباص أو حتى الأتوبيس السياحي، نصل إلى الشاطئ مع أول شمس، نلتهم ما أحضرناه من سندوتشات منزلية، نسبح ونلعب ونلتقط الصور، ثم نعود ليلًا، متعبين لكن سعداء.

ولأن المصريين بارعون في «تطويع» الواقع، تطورت الفكرة: بعضهم صار ينظّم «أفواجًا» صغيرة، والبعض الآخر يختار أيام منتصف الأسبوع لتقليل الزحام، وهناك من صار يذهب حتى الشواطئ غير المشهورة لتوفير المزيد من المال.

453.jpg
مصيف اليوم الواحد

أشهر أماكن مصايف اليوم الواحد

رغم اختلاف الأذواق، تبقى هناك بعض الوجهات الشهيرة للمصريين في رحلات اليوم الواحد:

 الإسكندرية.. ملكة اليوم الواحد

الرحلة من القاهرة إلى الإسكندرية تستغرق ساعتين تقريبًا بالقطار أو الأتوبيس، هناك يجد الزوار شواطئ مفتوحة مثل «ستانلي»، «المندرة»، «ميامي»، «بحري».. فضلًا عن كورنيش طويل يصلح للتنزه والتصوير.

رأس البر.. لقاء النيل بالبحر

ميزة رأس البر أنها تجمع بين نهر النيل والبحر المتوسط، لذا يزورها أهل الدلتا بكثافة، ويستمتعون بجلستها الشعبية الشهيرة على الكورنيش، وتناول وجبة سمك طازجة بأسعار مقبولة.

بلطيم.. الهدوء الشعبي

شواطئ هادئة، نظيفة نسبيًا، وتجذب العائلات التي تبحث عن سعر أقل وزحام أقل، خصوصًا منتصف الأسبوع.

العين السخنة.. لمسة رفاهية

تبعد عن القاهرة نحو ساعة ونصف فقط، لكنها أغلى قليلًا، رغم ذلك يذهب إليها كثيرون في رحلات اليوم الواحد للاستمتاع بمياهها الصافية ورمالها الناعمة.

 شنطة مصيف اليوم الواحد

شنطة مصيف اليوم الواحد تختلف عن شنطة السفر المعتادة؛ فهي أقرب لصندوق أسرار صغير، حيث تحتوي على، ملابس سباحة خفيفة، كاش مايوه، تي شيرت قطني فضفاض، فوطة متوسطة الحجم.، سندوتشات بيتي: جبنة بيضاء، بيض مسلوق، طماطم، خيار، وربما علبة تونة صغيرة، زجاجات مياه مثلجة وبعض العصائر، كريم واقٍ من الشمس (ولو بكمية قليلة)، هاتف محمول بكاميرا جيدة لتوثيق اللحظات، وبدلًا من حقائب ثقيلة، يعتمد الجميع على «شنطة ظهر» خفيفة تُحمل بسهولة أثناء التنقل.

 قطار الفجر.. وأتوبيسات الشوق إلى البحر

في الخامسة أو السادسة صباحاً، تكتظ الميكروباصات والأتوبيسات المتجهة شمالاً؛ وجوه نصف نائمة ونصف حاضرة، حقائب بلاستيكية بين الأرجل، وضحكاتٌ متقطعة تخترق الصمت، الوجهة غالبًا الإسكندرية، رأس البر، بلطيم أو العين السخنة، المشهد يُذكّرنا برحلات المدارس، لكنه هذه المرة لا يخص الأطفال فقط؛ الكبار أيضًا يهربون ليومٍ واحد من همّ المدينة.

يصلون مع إشراقة الشمس، يفرشون الحصير، ينصبون الشمسية، ويعلنون افتتاح "مملكة اليوم الواحد". لا غرف مطلة على البحر ولا حمامات سباحة، فقط مساحة رمل تكفي لأن يجلس الكل معًا.

 هنا تختفي الفروق بين موظف بسيط وطالب جامعي وأبٍ يدفع أقساط مدارس أولاده. البحر واحد، والضحكة كذلك.

تنزل الأقدام المتعبة في الماء كمن يدخل طقس تطهير رمزي. يسبح البعض، يكتفي آخرون بتبليل الأقدام، لكن النتيجة واحدة: شعورٌ بأن الجسد تحرر للحظات. لا بطاقات VIP ولا اشتراكات، موجة البحر تصل للجميع بالتساوي. في هذه اللحظة، يُصبح البحر عدلاً حقيقياً لا يكتبه الدستور.

موسيقى اليوم الواحد.. من «سميرة» إلى «الهضبة»

لا تخلو شنطة اليوم الواحد من «سبيكر» صغير يبث أغنيات صيفية خفيفة، تتنوع الأذواق بين أغانٍ كلاسيكية لأم كلثوم وعبد الحليم، وأخرى حديثة لعمرو دياب وحماقي وتامر حسني، حتى الأغنيات الشعبية مثل «آه لو لعبت يا زهر» أو «لأ لأ» تجد طريقها إلى الشاطئ.

ولعل سر تلك التوليفة أن الناس يريدون الجمع بين الحنين والبهجة، بين الماضي والحاضر في ساعات قليلة.

الغداء الشعبي: كيس سندوتشات وعلبة فول وطعمية للفطار ووجبة سمك للغذاء
بعيدًا عن المطاعم الكبرى، يعتمد مصيف اليوم الواحد على الطعام البيتي، فهو أقل تكلفة وأكثر بركة:

سندوتشات الجبنة البيضاء، طعمية وفول ملفوف في أوراق جريدة أو أكياس، وأحيانًا كيس بطاطس أو كيس فشار، ومشروب غازي أو عصير منزلي.
والمذاق هنا لا يُقاس بالجودة بل بالمشاركة والضحكات أثناء الأكل أمام البحر.

صور وذكريات لا تُنسى

ربما لا تحمل الرحلة تذكارًا فاخرًا، لكن الصور التي تُلتقط بكاميرا الهاتف تكفي لتوثيق اليوم. صورة جماعية عند الشاطئ، صورة رجل عجوز يبيع الذرة، صورة لأمواج تغمر الأقدام.. هذه التفاصيل الصغيرة تصنع سحر الذكرى.
ويُبدع المصريون طقوسًا خاصة، من صناعة قصور من الرمل للأطفال، إلى اللعب بالطائرات الورقية أو كرة القدم، ومسابقات الغطس البدائية بين الأصدقاء، كتابة الأسماء على الرمال وتصويرها.

رحله على قد الإيد

أرخص مصيف، اليوم الواحد قد يكلّف الفرد ما بين 200 إلى 500 جنيه مصري تقريبًا (حسب الوجهة). السعر يشمل الانتقال والوجبات البسيطة وربما شمسية أو كرسي على الشاطئ.

ورغم بساطة التكلفة مقارنةً بالسفر لأسبوع، يظلّ هذا المبلغ عبئًا أحيانًا، لكن الرغبة في رؤية البحر «حتى ليوم واحد» تنتصر غالبًا على حسابات الجيب.

فسحة الكورنيش.. خطوات على رصيف الذاكرة

يترك المصطافين البحر مؤقتًا ليتمشّى على الكورنيش، يشترون فريسكا أو ذرة مشوية، يلتقطون صورًا أمام معالم المدينة أو تمثال سعد زغلول، أو حتى أمام البحر ذاته، الكورنيش مساحة مجانية لتوسيع صدر اليوم الضيق، وخطف لحظات رومانسية سريعة للأزواج.

ومع اقتراب الظهيرة، تُصبح الرمال ملتهبة، بعضهم يعود للبحر، والبعض ينام في الظل، والأطفال يتذمرون من الحرّ ثم ينسونه مع موجة جديدة، في هذا التوقيت، يغدو الشاطئ كرنفالاً صامتًا؛ أرواحٌ متعبة تستريح، عيونٌ تحدّق في الأفق الأزرق، وكأنهم يقولون: «لو كان اليوم قصيراً، فدعونا نطيله بالتأمل».

الغروب.. نهاية اليوم والعودة 

يبدأ الجميع في جمع الحقائب، الفوط المبللة، والكرسي القابل للطي، يودّعون البحر بصور أخيرة، بعضهم يشتري هدايا رمزية من الأكشاك: أساور بلاستيكية، أصداف بحرية، أو حتى مغناطيسًا عليه صورة المنارة، ومع كل خطوة للعودة، يتمنى المرء لو تأخر الغروب قليلاً.

داخل الأتوبيس في طريق العودة، تنعكس الشمس على الوجوه المرهَقة، البعض ينام بسرعة، والبعض يُكمل سرد مواقف اليوم: طفل بلّلته موجة، أو شجارٌ مضحك على مكان الجلوس، التعب ظاهر، لكن في القلوب شيء دافئ؛ كأن البحر دسّ فيهم شحنةً خفيةً للصمود في أيام العمل القادمة.

لماذا يوم واحد يكفي أحيانًا؟

ربما يسأل سائل: «أليس أسبوعًا كاملًا أفضل؟»، الجواب عند هؤلاء سهل: يكفيهم يومٌ واحد يُنسّيهم همّ سنة، البحر ليس ملكًا لأحد، ومَن رأى صفحة الماء تتلألأ تحت الشمس شعر بأنه امتلك الكون لساعات. الفقر هنا لا يُلغي الفرح؛ إنه فقط يُقلل الزمن، لا المعنى.

هكذا، يصبح «مصيف اليوم الواحد» أكثر من حيلة اقتصادية؛ إنه مقاومة هادئة للفروق الطبقية، للتذاكر الباهظة في حفلات الساحل، وللأسوار العالية التي تفصل الشواطئ الخاصة عن العامة. مقاومة بالضحك، بالرمل، وبصورة على الكورنيش.

مصيف اليوم الواحد يعكس فلسفة شعب لا يستسلم، حتى لو لم نستطع المبيت في الشواطئ الغالية، نستطيع أن ننتزع ساعات قصيرة من الفرح، وأن نُخبئ في القلب لحظات قد تبدو عابرة لكنها تُعمر في الذاكرة طويلًا.

ربما فرّقت الأسعار بين من يقيمون في فيلا أو شاليه فاخر، ومن يقضون يومًا واحدًا على شاطئ عام مزدحم، لكن البحر يبقى للجميع، الأمواج لا تُفرّق بين غني وفقير، وضحكة الأطفال لا تعرف الفئات الاجتماعية.

هكذا يستمر «مصيف اليوم الواحد» كأجمل دليل على أن الفرح في مصر لا يُقاس بعدد الليالي، بل بصدق اللحظة ودفء الصحبة.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق هل تنفجر جماهير مانشستر؟ الشياطين الحمر يستهدفون مهاجمًا مصابًا
التالى استعدادات مشددة لامتحانات الأحياء والرياضيات والإحصاء الخميس المقبل.. تعليمات لضبط التوزيع والتراجم