أخبار عاجلة

بين البهجة والابتذال.. حفلات الشواطئ من سحر الطرب والغناء إلى جنون الأسعار!

بين البهجة والابتذال.. حفلات الشواطئ من سحر الطرب والغناء إلى جنون الأسعار!
بين البهجة والابتذال.. حفلات الشواطئ من سحر الطرب والغناء إلى جنون الأسعار!
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

على شاطئ البحر، حيث يُولد النهار بلون أزرق وتغفو الشمس في حضن الأفق بلون برتقالي خافت، اجتمعت أجيالٌ من المصريين عبر عقود طويلة على صوت الطرب، تغير الزمان والمكان، تبدلت الأسماء والألحان، لكن بقي الغناء على الشاطئ طقسًا صيفيا مقدسًا، يروي حنين الناس للفرح، ويكشف أيضًا عن اختلاف الأذواق والطبقات وتحولات المجتمع.

في زمنٍ لم يكن فيه «تيك توك» ولا حفلات VIP ولا تذاكر تُباع بآلاف الجنيهات، كان شاطئ الإسكندرية ورأس البر ومرسى مطروح مسرحًا مفتوحًا يصدح فيه صوت عبد الحليم وأم كلثوم وفيروز من مذياع صغير، الأغنية تُقرَّب المسافات بين الغرباء وتحوِّل الشاطئ إلى بيتٍ واسعٍ للجميع، أما اليوم، فقد صار الغناء على الشاطئ تجارةً رابحةً تستقطب نجوم الصف الأول وأصحاب رؤوس الأموال، وتحرم منها الطبقة المتوسطة التي صنعت مجد الغناء يومًا ما.

 من راديو صغير على الرمال إلى حفلات تتجاوز الخيال

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان المصيفيّون يجتمعون حول «ترانزستور» صغير، تخرج منه أغنيات ليالي الصيف من إذاعات القاهرة، أو حفل مسجَّل لأم كلثوم يُذاع في سهرة الخميس. في ذلك الوقت، لم يكن شاطئ الإسكندرية بحاجة إلى مطربٍ حي ليصنع حالة طرب؛ كان البحر نفسه يُكمل الجملة الموسيقية، وكان النسيم هو العازف الذي يرافق كل لحن.

ومع الثمانينيات، بدأت ظاهرة الحفلات على الشواطئ تظهر بخجل؛ مطربون شباب يقيمون حفلات في النوادي الصيفية والفنادق، بأسعارٍ رمزية، غالبًا لا تتجاوز ثمن وجبة غداء بسيطة، كان جمهور تلك الحفلات مزيجًا بين الطبقة الوسطى وبعض الأسر الأرستقراطية، وكان الغناء لا يزال يحمل نكهة الرومانسية والبهجة الراقية دون ابتذال.

ثم جاء عصر «الساحل الشمالي» مع الألفية الجديدة، فتحوَّل كل شيء إلى عرضٍ مبهر للأضواء والصوت والمال؛ خشبات مسرح ضخمة تُبنى خصيصًا على الشاطئ، مؤثرات بصرية تحاكي أكبر المسارح العالمية، وحفلات أسعار تذاكرها تتجاوز دخل أسرة متوسطة في عامٍ كامل.

سعر التذكرة.. رفاهية الأغنياء وأحلام الفقراء

كثيراً ما نسمع ونشاهد «حفلة فلان الكبير».. على مساحة كبيرة وبحضور أعداد كبيرة  خبرٌ يملأ مواقع التواصل مع بداية كل صيف، لتبدأ موجة من الجدل حول سعر التذاكر، تذكرة الصف الأول قد تتجاوز 50 ألف جنيه، وهو رقمٌ قد لا يُصدقه عقل أسرة تنفق شهريًا على كل احتياجاتها أقل من ربع هذا المبلغ.

المفارقة أن هذه الحفلات غالبًا ما تُقام في قرى سياحية مغلقة أو في منتجعات لا يدخلها إلا أصحاب العضويات الخاصة، ما يحول الفن إلى سلعةٍ فاخرةٍ تُباع لمن يملك لا لمن يحب، الفن الذي وُلد ليكون لسان حال الشعب، صار اليوم ترفًا مُسعَّرًا بالدولار.

بينما يبقى «مصيفو» الشواطئ الشعبية يُنصتون من بعيد إلى صدى الحفل، أو يكتفون بمقطع قصير مصور بكاميرا هاتف محمول ليشعر أنه شارك ولو لثواني في هذا العُرس الغنائي الباذخ.

415.jpg
حفلات الشواطئ الليلية

 الغناء.. مرآة اختلاف الأذواق والطبقات

الغناء على الشاطئ لم يعد مجرد حفلة، بل صار مرآةً صافيةً تُظهر الفارق بين ذوق الطبقات، في الشواطئ الشعبية، يسيطر الغناء الشعبي السريع، والمهرجانات ذات الإيقاع القوي الذي يُشعل الرقص ويُلهب الشاطئ بالتصفيق والصفير.

بينما على مسارح الساحل الشمالي والعلمين الجديدة، تسمع ألوانًا أخرى؛ مزيج من البوب الغربي والأغنية الرومانسية الجديدة، وحتى «الدي جي» العالمي الذي يُقدّم عروضًا بأحدث تقنيات الصوت والإضاءة.

أصبح الغناء في المصايف  ليس فقط صوتًا؛ بل تصميم رقصات، وملابس مُلفتة، وحركات على المسرح تُثير الجدل بين من يعتبرها فنًا استعراضيًا راقيًا، ومن يراها خادشه للحياء، وبين هؤلاء وأولئك، تتكون خريطة موسيقية معقدة لمصايف مصر: غناء لكل ذوق، لكنه أيضًا غناء يُكرّس المسافة الطبقية.

 

الرقص على الشاطئ.. بين البهجة والابتذال

441.jpg

الرقص جزء أصيل من الفرح؛ في المصيف الشعبي، يكفي تصفيق جماعي ودبكة عفوية بين الأصدقاء لتصنع بهجةً صافية. لكن في بعض حفلات الشواطئ الراقية، يتحول الرقص إلى عرضٍ استعراضي مبالغ فيه؛ رقصات تتجاوز الخطوط الحمراء في ملابس جريئة أو حركات صادمة تُصوَّر وتنتشر بسرعة على مواقع التواصل، فتثير غضب البعض وإعجاب آخرين.

وتبقى القضية الأعمق: هل الفن على الشاطئ يجب أن يلتزم حدود الذوق العام، أم أن البحر نفسه مكانٌ للحرية المطلقة؟ وهل الرقص المثير حرية شخصية أم خدشٌ للحياء العام؟

أسئلة قديمة متجددة، تعود كل صيف مع موجة جديدة من الجدل، كأنها مدٌّ وجزرٌ أخلاقي وفني لا ينتهي، لكن المعروف خلقاً ودينا أن ذلك يتنافى مع الأداب العامة لأي مجتمع حتى ولو كان ذلك تحت إطار الحرية الشخصية التي تكفلها بعض الدول.

 

من زمن الطرب إلى زمن «الترند»

في الستينيات، كان المصيفون ينتظرون ليلة الخميس ليسمعوا حفل أم كلثوم في الإذاعة، يسبقونه بالدعاء أن يكون الغناء على مقام الرومانسية والأمل.

ثم جاء عبد الحليم، فامتلأت الشواطئ بفتاةٍ تبتسم خجلًا وهي تسمع «زي الهوا»، أو شابٍ يُدندن «جانا الهوى»، كانت الأغنية تقرب بين القلوب وتكتب ذكريات حب تُحكى بعد سنوات.

اليوم، الأغنية على الشاطئ صارت «ترند»؛ كلمات سريعة تُصنع خصيصًا لتُرقص الناس لدقائق معدودة، ثم تُنسى ليأتي غيرها، لم يعد المهم كلمات الأغنية ولا لحنها؛ الأهم كم مرة تمّ تحميلها على «ريلز» أو «تيك توك».

تبدَّل الذوق الغنائي مع تبدل نمط الحياة، وصار المصيفون يبحثون عن أغنية تُشعل الحفل، حتى لو لم تُشعل القلب.

كيف يغير الغناء حالة المصيفين؟

الغناء ليس مجرد صوت، بل هو طقسٌ يُعيد ترتيب مشاعر الناس على الشاطئ، أغنية هادئة وقت الغروب قد تدفع العشاق للاقتراب أكثر، وأغنية سريعة في منتصف النهار قد تصنع ضحكًا جماعيًا يزيح عنهم حرارة الشمس.

في المصايف الشعبية، الأغنية تُنسى سريعًا، لكن أثرها يبقى حالة فرح بلا سبب واضح، ابتسامة على وجه بائع الذرة، وتصفيق عفوي من جمهور لا يملك سوى الفرح.

وفي المصايف الراقية، الأغنية جزء من تجربة متكاملة؛ سواء داخل الفنادق أو على الشواطئ وتشتمل على كل العناصر من ديكور، إضاءة، مؤثرات بصرية، حتى نوعية المشروبات في الحفل تُختار بعناية لتناسب الذوق العصري وبأسعار تفوق الخيال.

لكل مكانٍ طريقته في استقبال الأغنية؛ لكنها تظل الرابط السحري الذي يوحّد آلاف الغرباء في لحظة إيقاعٍ مشترك.

416.jpg
المصايف عبر الأجيال

الغناء والمصايف عبر الأجيال

جيل الأجداد عرف البحر مع صوت أم كلثوم؛ فالأغنية كانت تُسمع من مذياع، تصنع حالة تأمل لا صخب فيها، جيل الآباء عاش البحر مع عبد الحليم وفريد الأطرش، حيث الأغنية مزيج من الشجن والحبّ.

ثم جاء جيل التسعينيات مع عمرو دياب وحميد الشاعري، حيث الأغنية صارت أكثر سرعةً وبهجةً. كانت حفلات الشواطئ محدودة، لكن الحضور فيها كان حلمًا حقيقيًا للشباب.

أما اليوم، فإن جيل «السوشيال ميديا» يريد أغنيةً تُصوَّر وتُنشر فورًا، وصوتًا عاليًا يغطي على كل شيء، لم يعد البحر نفسه هو البطولة؛ البطولة انتقلت إلى المسرح والنجوم والدي جي والإسفاف والابتذال.

المشهد حتى لن يفهمه إلا من عاشه في حفلات على الشاطئ يبدأ مع غروب الشمس؛ صوت المغني يتمازج مع ضوءٍ ذهبي على صفحة البحر، وجمهور يرفع يديه للسماء كأنه يشكر الله على جمال اللحظة.

ثم يتحوّل الليل إلى مسرحٍ مفتوحٍ للأضواء الليزر، وتعلو الإيقاعات حتى الفجر، كأن الشاطئ نفسه يرقص مع الجمهور.

هذا التناقض بين الهدوء والرعونة، بين التأمل والجنون، هو سرّ سحر حفلات الشواطئ؛ لا تُشبه حفلات القاعات ولا المسارح المغلقة، بل تحمل روحًا بحرية البحر نفسه.

449.jpg
الشاطئ الأبيض بالغردقة

هل فقدت حفلات الشواطئ روحها؟

يسأل كثيرون: أين ذهب الدفء الذي كان يُميّز الغناء في المصايف؟ لماذا صارت الحفلات تُشبه نسخة مستوردة من عروض عالمية بلا هوية مصرية واضحة؟

بينما يرى آخرون أن هذا التطور طبيعي؛ فالمجتمع تغيّر، والأجيال الجديدة تبحث عن تجربة متكاملة لا مجرد صوت، لكن تظلّ الحقيقة المؤلمة: تذكرة الحفل لم تعد في متناول الجميع، والفن الذي كان لغة الشعب صار حكرًا على من يملكون، لا من يحبون.

الغناء والمصايف في مصر حكاية لا تموت؛ تبدأ بحفلة بسيطة على رمال رأس البر، وتمرّ عبر مسارح الإسكندرية في السبعينيات، وتصل اليوم إلى حفلات بملايين الجنيهات في الساحل الشمالي.

تتغير الأسماء والألحان والأضواء، لكن تبقى لحظة أن يلتفت غريبٌ إلى غريبٍ في الحفل، ليبتسم له وهما يرددان نفس الأغنية، تلك اللحظة البسيطة هي جوهر الفن الذي لا يُشترى بتذكرة غالية ولا يُنسى مهما تغيّر الزمان لكن كل ذلك يجب أن يخضع للأداب العامة دون عري أو مخالفات.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بدء جلسة مباحثات بين رئيس الوزراء ورئيس مجلس الدولة الصينى
التالى محافظ البحيرة تشهد ختام برنامج "المرأة تقود في المحافظات المصرية"