في أواخر القرن التاسع عشر، ظهر في مصر اسم أجنبي صار جزءًا من حكاية القاهرة الإسلامية: ماكس هرتس، المهندس المجري المولود عام 1856، والذي لم يكن يتصور أن القدر سيقوده من بودابست إلى قلب القاهرة ليصبح واحدًا من أبرز حماة عمارتها التاريخية.
تخرج هرتس من كلية الهندسة في بودابست عام 1880، وبدأت رحلته إلى مصر حين تعرف على عائلة نمساوية كان كبيرها مديرًا لفندق "النيل" بالموسكي، وكانت تستعد للسفر إلى القاهرة، عرضوا عليه مرافقتهم ليكون دليلًا يشرح لهم آثار مصر وعمارتها، فوافق، ولم يكن يعلم أن هذه الرحلة ستغير حياته.
من رسام إلى معماري لجنة حفظ الآثار العربية
في القاهرة، التقى هرتس بالمهندس يوليوس فرنس، رئيس قلم الهندسة بديوان عموم الأوقاف، الذي عرض عليه وظيفة رسام، ثم مهندسًا بالأوقاف عام 1882، بموهبته واهتمامه بالتفاصيل، صعد سريعًا حتى أصبح المعماري الرئيسي في لجنة حفظ الآثار العربية عام 1890، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1914.
في تلك الفترة، لم يترك هرتس أثرًا إسلاميًا في القاهرة إلا واعتنى به، كما يؤكد المؤرخ الدكتور استيفان أورموش، حصل على البكوية عام 1895، ثم على رتبة "ميرميران" (تعادل الباشوية) عام 1913، قبل أن تعصف به أحداث الحرب العالمية الأولى، إذ طردته السلطات البريطانية من مصر باعتباره من رعايا دولة معادية، فغادر إلى إيطاليا حيث توفي عام 1919 أثناء عملية جراحية.
أعمال خالدة في عمارة القاهرة والإسكندرية
كان لهرتس بصمة في ترميم صحن الجامع الأزهر والبوائك الفاطمية، والمدرستين الأقبغاوية والطيبرسية، كما أعاد بناء قبة ضريح السلطان المنصور قلاوون على مثال قبة الأشرف خليل بن قلاوون، بعد أن هدمها عبد الرحمن كتخدا في القرن الثامن عشر.
رمّم مسجد السلطان حسن، أشهر مساجد القاهرة، وجمع التبرعات لإتمام إصلاحه، مكتشفًا خلال العمل بقايا الميضأة الأصلية وأعادها إلى حالتها الأولى، وفي مدرسة السلطان برقوق، نفذ ترميمًا كاملًا وزخرف أسقفها، ما دفع المعماري حسن عبد الوهاب لوصف عمله بأنه "مفخرة للجنة الآثار".
لم يقتصر عطاؤه على القاهرة، بل امتد إلى إنقاذ قلعة قايتباي في الإسكندرية من قرار الإزالة بعد تضررها جراء قصف الأسطول الإنجليزي عام 1882، واعتمد على رسومات "وصف مصر" لإعادة أسوارها وأبراجها إلى صورتها التاريخية.
إرث باقٍ رغم الرحيل
رحل ماكس هرتس عن مصر قسرًا، لكن إرثه المعماري ظل شاهدًا على حبه لآثارها الإسلامية، ترك خلفه مساجد ومدارس وأضرحة استعادت مجدها، ومدينة تاريخية نجت بفضل عينه الدقيقة وحسّه المعماري الرفيع.
ربما كان يهوديًا مجريًا غريبًا عن أرض النيل، لكن ماكس هرتس عاش في ذاكرة القاهرة كأحد أوفى حراس عمارتها الإسلامية، حتى لو طواه النسيان في دفاتر التاريخ.
