سجلت محكمة العدل الدولية موقفاً رائعاً هو الأول من نوعه، بإصدار حكم عن أعلى محكمة في العالم، يقضي بإلزام الدول بمعالجة تغير المناخ، وأن عدم القيام بذلك قد يفتح الباب أمام التعويضات. ويمثل هذا الرأي القانوني -رغم كونه استشارياً-محطة تاريخية مهمة في التحرك المناخي.
ولعلها من المفارقات أن دولة جزرية صغيرة واقعة في المحيط الهادئ، أرخبيل فانواتو، هي التي وقفت أمام أقوى دول العالم وقادت جهود الحصول على رأى المحكمة وسط تزايد الإحباط من بطء التقدم في مفاوضات الأمم المتحدة بشأن المناخ. وأجاب القضاة الخمسة عشر في محكمة العدل الدولية، بناء على تكليف من الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن سؤالين أساسيين: العواقب المترتبة على الدول التي تسببت انبعاثاتها في أضرار بيئية، وخاصةً الدول النامية والجزرية المنخفضة المعرضة للخطر؛ وما الذي يجب على الدول فعله بموجب القانون الدولي لحماية البيئة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري "للأجيال الحالية والمستقبلية".
مرافعات الدول
وللإجابة عن هذين السؤالين، اطّلع قضاة محكمة العدل الدولية على عشرات الآلاف من الصفحات من المرافعات المقدمة من دول ومنظمات حول العالم. ولما كانت المادة (5) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية 1998، قد نصت على أن الجرائم الدولية هي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية، وجريمة العدوان، فإن القانون الدولي يرى أن الإضرار بالبيئة يعد جريمة ضد الإنسانية.
وقد تابعت على امتداد السنوات الماضية وخلال محادثات المناخ طيلة أكثر من عقد كامل المحاولات المتعمدة من بعض الدول المتقدمة للتنصّل من قضايا التغير المناخي، ولأسباب متعددة، غالبًا ما تكون مرتبطة بمصالح اقتصادية وسياسية. منها أن بعض هذه الدول ترى أن التزامات خفض الانبعاثات ستعيق النمو الاقتصادي، خاصةً في قطاعات رئيسية مثل الطاقة والصناعة. ويخشى عدد من الدول المتقدمة أن يؤدي خفض الانبعاثات إلى فقدان القدرة التنافسية في الأسواق العالمية، أو إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.
المسؤولية التاريخية
بالإضافة إلى ذلك، هناك جدل حول من يتحمل المسؤولية التاريخية عن التغير المناخي، حيث ترى بعض الدول النامية أن الدول المتقدمة تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية بسبب انبعاثاتها التاريخية. كما أن هناك تحديات في تنفيذ اتفاقيات المناخ، مثل عدم وجود آليات تمويل كافية للدول النامية لتنفيذ مشاريع التكيف مع التغير المناخي.
ولعل الدول الأكثر تضرراً من التلوث البيئي والتغير المناخي لديها حق ثابت في المطالبة ليس فقط بتحمل الدول الغنية تبعات الأضرار وتمويل صندوق التكيف المناخي، ولكن أيضاً بتعويضات عما لحقها من أضرار: نعم، هناك تاريخ طويل من استغلال الدول المتقدمة للموارد الطبيعية منذ القرن السابع عشر، بما في ذلك الصناعات التعدينية والبترولية، وفي المستعمرات والدول النامية، مما أدى إلى تلوث بيئي وتدهور اقتصادي في تلك المناطق. خلال فترات الاستعمار، قامت الدول الأوروبية بتأسيس مصانع ومناجم في المستعمرات لاستغلال مواردها الطبيعية، مما أدى إلى تدهور البيئة المحلية وتلوثها بسبب عمليات التعدين. بعد الاستعمار، استمرت الدول المتقدمة في استغلال الموارد البترولية في الدول النامية، مما أدى إلى تلوث الهواء والماء والتربة، وتغير المناخ. ثم لم تتوقف عن ذلك الاستغلال لأن صناعاتها الحديثة واقتصاداتها قامت على هذه الموارد وكانت تستوردها بشكل دائم وبأسعار بخسة من الدول الفقيرة والنامية برغم التكلفة البيئية الخطرة على شعوب تلك الدول التي وقع عليها ظلم تاريخي لن يمحيه أي شيء ولن تعوضه أموال الدنيا. وأدى هذا الاستغلال المتواصل لحد الآن إلى تفاقم عدم المساواة بين الدول المتقدمة والدول النامية، حيث استفادت الدول المتقدمة من الموارد الطبيعية بتكلفة بيئية واقتصادية كبيرة وخطيرة على حساب الدول النامية.
اللوبي المستفيد
لكن اللوبي المستفيد من قطاعات الطاقة والصناعات البترولية والتعدينية يقف الآن بالمرصاد للدول المتقدمة في تمرير تشريعات وسياسات رشيدة متعلقة بالمناخ، ويعاضد هذا اللوبي بعض الأحزاب السياسية ومرشحوها ونوابها حرصاً على تمويل حملاتهم الانتخابية. والمثل البارز هنا الولايات المتحدة الأمريكية التي يتحكم في سياساتها هذا اللوبي وبكل قوة وشراسة. ونعلم أن هذه الشركات هي التي تمول حملات المرشحين سواء للرئاسة أو للكونجرس والمجالس المتعددة.
وقد أعطى هذا الحكم من محكمة العدل الدولية الدليل القانوني لرفع الضيم وتحميل المسؤولية البيئية للدول المتقدمة فيما يتعلق بالتلوث البيئي بسبب تاريخها الطويل في استغلال الموارد، ويجب عليها دعم الدول النامية في جهودها للتنمية المستدامة وحماية البيئة.
لقد أصبحت التنمية تتخذ منحى شمولياً ومستداماً يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد المتعددة وأن الارتباط الموجود بين البيئة والتنمية جعل من الضروري إدماج البعد البيئي بين مكونات التنمية لأنه لا يمكن الاهتمام بالتنمية على حساب البيئة أو العكس، كما أن الأمن البيئي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي لأي بلد بل والأمن والأمان العالمي بشكل عام لأن الكرة الأرضية مترابطة وما يحدث في منطقة معينة من انتهاكات بيئية يؤثر على بقية المناطق. من هنا، لا يمكن السكون عن الانتهاكات المستمرة ضد البيئة التي أدت إلى ظواهر جديدة وخطيرة في الغلاف الجوي منها الاحتباس الحراري وتغير المناخ والعواصف والزلازل، إضافة إلى الأمراض الخطيرة المتفاقمة بسبب تلوث البيئة المتزايد على الأرض.
نحو التنمية المستدامة
لذلك، هناك حاجة ملحة الآن للتحول نحو التنمية المستدامة، ولن يتحقق ذلك بدون تعاون الدول المتقدمة والنامية معًا لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة. وإذا استمرت الدول المتقدمة في تنصلها من مسؤوليتها والشحّ في تمويل صندوق التعويضات، فقد بات في إمكان المشرّعين والمحامين والقضاة حول العالم استخدام هذا التفسير للقانون الدولي لتغيير القوانين أو مقاضاة الدول على تقاعسها عن اتخاذ إجراءات بشأن المناخ.
إن هذا الانتصار لكوكب الأرض وللعدالة المناخية ولقدرة الشباب في "فانواتو" أصغر أرخبيل في المحيط الهادي على تحريك الأمور، من خلال دعوى أمام الأمم المتحدة وأعلى محكمة تابعة لها، سيكون مصدر إلهام للمزيد من التحركات القانونية مستقبلا في قضايا المناخ، وسيمثل حجة إضافية خلال المفاوضات مع البلدان التي تصدر أكبر كمية من الغازات الدفيئة!.
*كاتبة متخصصة فى الشأن الدولى