أخبار عاجلة
أسعار الدواجن اليوم الأحد 3 أغسطس 2025 -

شخصيات التيك توك.. بين الهزل والدمار النفسي لأجيال المستقبل

شخصيات التيك توك.. بين الهزل والدمار النفسي لأجيال المستقبل
شخصيات التيك توك.. بين الهزل والدمار النفسي لأجيال المستقبل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في زمن أصبحت فيه الشهرة على بُعد مقطع قصير لا يتجاوز الثواني، تَحولت منصات مثل تيك توك إلى بؤر لصناعة نجوم اللحظة، ممن يصعدون سريعًا بلا أي مضمون حقيقي، ثم يختفون بعد أن يخلّفوا وراءهم جيلًا مشوشًا، مشوه القيم، ومفكك الطموحات. شخصيات التيك توك التي نراها يوميًا تسخر من العلم، تستهزئ بالاجتهاد، وتروّج لفكرة أن النجاح لا يحتاج أكثر من “تريند سخيف” أو تقليد أعمى. هذه ليست مبالغة، بل مأساة اجتماعية ونفسية تتفاقم كل يوم، بينما يقف الأهل والمجتمع والمؤسسات التعليمية موقف المتفرج العاجز عن التدخل.

غالبية هؤلاء “المؤثرين” هم في الحقيقة ضحايا اضطرابات نفسية دفعتهم إلى السعي المحموم نحو الانتباه والإعجاب. يتسمون غالبًا بسمات نرجسية واضحة، ويميلون لسلوك تعويضي نتيجة شعور دفين بالدونية أو الفشل في علاقات الحياة الواقعية. في التحليل النفسي، نُسمي هذا “قناع الشخصية المزيفة”، حيث يصنع الفرد لنفسه هوية رقمية مشوهة للهروب من ذاته الحقيقية. هذه الشخصيات، على الرغم من أنها تُثير الضحك والفضول، إلا أنها تُغذي لدى الأطفال والمراهقين نموذجًا فاسدًا للنجاح، قائمًا على السطحية، الكذب، والاستعراض، لا على القيم أو الإنجاز الحقيقي. وتكرار التعرض لهذا النمط من “القدوات الزائفة” يصيب الأجيال الشابة بالتشوش النفسي وفقدان المعنى، فيتحول الطموح من الرغبة في التعلم والإنجاز إلى رغبة في التكرار الأجوف والظهور فقط.

تشير دراسة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2023 إلى أن أكثر من 70٪ من الأطفال الذين يستخدمون تيك توك يوميًا، يقلدون سلوكيات المؤثرين بشكل لا واعٍ، ويتأثرون بقيمهم، حتى وإن كانت ضارة أو شاذة. بل والأسوأ، أن كثيرًا منهم يطورون شعورًا باللاجدوى تجاه التعليم أو العمل الجاد، معتقدين أن هذه المسارات “قديمة” وغير مجدية مقارنة بشهرة سريعة يمكن تحقيقها بهاتف محمول وكاميرا أمام المرآة. وقد وصفت مجلة “21” في تقريرها الأخير لعام 2024 شخصيات التيك توك الشهيرة بأنهم “مُسوِّقو التدمير الناعم”، مؤكدة أن هؤلاء يقدمون “محتوىً يُشبه الوجبات السريعة: مشبع بالمؤثرات، لكنه خاوٍ من القيمة، ويترك الجيل في حالة جوع فكري دائم”. هذا التوصيف يعكس بدقة حجم التزييف والفراغ الذي يقدمه هذا النمط من الشخصيات، التي لا تسعى للتأثير بقدر ما تسعى للاستعراض والضجيج، تحت شعار “الترفيه”، بينما هي في الحقيقة تسهم في تفكيك وعي الأجيال وإضعاف مناعتهم النفسية والمعرفية.

المحتوى الذي يُروج لهؤلاء الشخصيات يتضمن غالبًا إيحاءات جنسية، ألفاظًا نابية، عنفًا مبطنًا، أو تحديات سلوكية مَرَضيّة تؤذي النفس والجسد. دراسة من منظمة Common Sense Media عام 2022 حذّرت من أن “التيك توك أصبح بيئة خصبة لتعزيز الاندفاعية، تقلب المزاج، وانخفاض التركيز والانضباط الذاتي بين المراهقين”، وهو ما يُهدد الصحة النفسية لجيل بأكمله، ويزيد من معدلات الاكتئاب واضطرابات الهوية والانتحار الرقمي الذي لا يُعلن. ومما يدعو للقلق أكثر أن النماذج السائدة اليوم لا تقدم أي شكل من أشكال القيمة: لا فن حقيقي، لا علم، لا وعي، بل فقط استعراض أجساد، وتمثيل مشاهد رخيصة، وترويج للسخرية من الأسرة، الدين، أو المدرسة.

الكارثة ليست فقط في أن هؤلاء المؤثرين يعيشون في وهم النجومية، بل في أن الآلاف – وربما الملايين – يسيرون خلفهم بافتتان أعمى، يتركون الكتب والأنشطة الحقيقية، ويتسابقون لتقليد محتوى فارغ لا يُقدم سوى الضحالة والانهيار. جيل بأكمله يتعرض لغسيل دماغ رقمي، يُغيّب التفكير النقدي، ويجعل من “التريند” غاية، لا وسيلة، ومن الشهرة المريضة طموحًا مشروعًا. وبمرور الوقت، يتشكل وعي جيل يرى في التفاهة إنجازًا، وفي الجهل جمالًا، وفي مخالفة القيم بطولة. وهكذا، نتحول من مجتمعات تنتج فكرًا ومعرفةً وثقافة، إلى مجتمعات تستهلك صخبًا وتُنتج فوضى وانهيارًا داخليًا.

إن السكوت على هذا العبث الرقمي لم يعد خيارًا. ما يحدث الآن ليس ترفيهًا بريئًا، بل غزوًا نفسيًا ناعمًا، يُعيد تشكيل القيم من الداخل، ويدمر القدرة على التعلم والانضباط والطموح الحقيقي. نحتاج إلى تدخل تربوي ونفسي عاجل، يبدأ من توعية الأهل، ويمتد إلى إدماج التربية الإعلامية داخل المناهج الدراسية، مع دعم بدائل رقمية راقية تُقدم قدوات حقيقية للأطفال والمراهقين. فالقدوة ليست من يملك ملايين المتابعين، بل من يزرع فكرة، يُلهم طريقًا، أو يحمي عقلًا صغيرًا من الضياع.

جيل يُقاد بواسطة شخصيات هزلية ومشوهة، لن يبني وطنًا، ولن يصنع مستقبلًا، بل سيكون هو نفسه مادة للفرجة… ثم يُنسى. وإذا لم ندق ناقوس الخطر الآن، فلن نجد بعد سنوات من نُحذره، لأن الجيل نفسه سيكون قد أصبح نسخة باهتة من شاشات جواله.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أوكرانيا تكشف عن مخطط فساد كبير في مجال شراء الطائرات المسيرة
التالى نقابة الصحفيين المصريين تجدد إدانتها للجرائم الوحشية للعدوان الصهيوني في غزة