في عالم تتنازعه الأيديولوجيات وتتنافس فيه القوى المختلفة على توجيه الوعي الجمعي، تقف جماعة الإخوان المسلمين كواحدة من أكثر النماذج التنظيمية براعة في استخدام تقنيات السيطرة على العقول. فالجماعة لم تكن مجرد حركة سياسية أو دعوية، بل مشروعًا أيديولوجيًا متكاملًا يهدف إلى إعادة تشكيل الإنسان وفق تصوّراتها الخاصة، مستفيدة من أدوات نفسية وتنظيمية وإعلامية تقترب كثيرًا مما وصفه دانيال بيك في كتابه التحليلي «غسيل الأدمغة: تاريخ التحكّم في العقول».
يركز بيك في كتابه على الطرق التي تستخدمها الأنظمة والحركات في السيطرة على الأفراد، بدءًا من اللغة المحملة بالدلالات الأيديولوجية، مرورًا بالرموز والشعارات، وانتهاءً بإعادة هندسة الواقع من خلال التعليم والإعلام والخطاب الديني. وهذا بالضبط ما فعله الإخوان، حيث خلقوا «عالمًا لغويًا» خاصًا بأتباعهم، يعيد تعريف المفاهيم وفق مقاييس التنظيم: فـ«الجهاد» يصبح مشروعًا سياسيًا، و«الخلافة» هدفًا دنيويًا، و«السمع والطاعة» فضيلة لا يمكن التشكيك فيها.
في هذا السياق، يتخذ الولاء للتنظيم طابعًا دينيًا عقائديًا، لا يترك مساحة للاجتهاد أو النقد. ويبدأ "التحكم بالعقل" من سن مبكرة عبر الكشافة والأسر التربوية والمناهج الداخلية، حيث يتشرب الفرد تصورًا واحدًا عن العالم والذات والآخر. ويعاد إنتاج هذا الوعي بشكل دوري عبر جلسات التربية، ومواد السمعيات، والمناهج التفسيرية والتاريخية الخاصة بالتنظيم، ما يضمن خلق "مؤمن جماعي" يرى في الانتماء للجماعة طريق الخلاص الدنيوي والأخروي معًا.
ومن أكثر الأمثلة وضوحًا على استخدام الجماعة لهذه التقنيات، استغلالها المتكرر والممنهج لقضية غزة. فبينما يتعاطف الجميع مع معاناة الشعب الفلسطيني، حوّلت الجماعة هذه المأساة إلى مادة دعائية متكررة تُستخدم لتثبيت مشاعر المظلومية والاضطهاد، وتعزيز صورة التنظيم باعتباره "المدافع الحقيقي" عن قضايا الأمة. وفي الواقع، لم يكن الهدف تقديم حلول واقعية أو دعم فعلي ملموس، بل استخدام الدماء والدمار كرافعة أيديولوجية لتحفيز الانتماء وتكريس الولاء وتبرير العنف أحيانًا.
سنحاول في هذه القراءة التحليلية أن نكشف آليات الخطاب الإخواني من خلال عدسة كتاب "غسيل الأدمغة"، لنفهم كيف تحوّلت الجماعة من مجرد تيار إصلاحي إلى منظومة عقلية مغلقة. سنرصد أدوات السيطرة على العقول، وتقنيات صناعة التبعية، ونُحلل كيف يُعاد إنتاج "الطاعة" داخل الجماعة بوصفها بديلًا عن التفكير. كما سنتوقف عند استغلالها للقضايا الكبرى، كقضية فلسطين، لتحويلها إلى وسائل تعبئة نفسية وتنظيمية.
هدفنا من هذا التحليل ليس شيطنة الجماعة، بل تقديم قراءة عقلانية لأدبياتها وخطابها وأساليبها التنظيمية، في ضوء الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة. ففهم هذه الديناميكيات هو الخطوة الأولى نحو تحصين المجتمع من الوقوع في فخاخ "غسيل العقول"، أيًا كان مصدرها أو لبوسها الأيديولوجي.
غسيل الأدمغة كأداة أيديولوجية
يشير دانيال بيك في كتابه "غسيل الأدمغة: تاريخ التحكّم في العقول" إلى أن السيطرة على العقول لا تحتاج إلى وسائل عنف صريحة كالاعتقال أو التعذيب، بل تتم غالبًا عبر مؤسسات تبدو للوهلة الأولى "محايدة"، مثل المدارس، ودور العبادة، ووسائل الإعلام. هذه الفرضية تجد تطبيقًا واضحًا في الاستراتيجية الفكرية والتنظيمية التي اتبعتها جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها، حيث لم تعتمد على القوة المباشرة، بل على بناء منظومة دعوية تعليمية موازية لمؤسسات الدولة، تتغلغل بهدوء داخل المجتمع وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي على المدى البعيد.
بدأت الجماعة مشروعها من "الكتاتيب"، وهي حلقات تعليم القرآن للأطفال، لكنها لم تكتف بتحفيظ النصوص، بل أدخلت فيها مفاهيم سياسية مؤدلجة بشكل مبكر، حيث يُربى الطفل على الولاء للجماعة كأنها تمثل "الإسلام الصحيح". في تلك الكتاتيب، يُلقّن الصغار أناشيد دينية ذات طابع تعبوي مثل: "إسلامنا نور الحياة"، و"جند الله"، وتُزرع في أذهانهم صورة مثالية للـ"إخواني المجاهد" مقابل صورة سلبية عن المجتمع الفاسد والسلطة الجائرة. وهذا النوع من التعليم القيمي – الذي يبدو في ظاهره دينيًا بريئًا – يؤدي عمليًا إلى احتكار المعنى الديني وتسييسه منذ الطفولة.
لاحقًا، تنتقل عملية التكوين الذهني إلى المراحل الجامعية، حيث تنشط الأسر الإخوانية في الجامعات كأدوات استقطاب وتشكيل فكري للشباب. هنا، يبدأ التركيز على مفاهيم مثل "التمكين"، و"الولاء والطاعة"، و"المجتمع الجاهلي" الذي ينبغي تغييره. يُقدَّم حسن البنا كقائد تاريخي لا يُخطئ، ويوضع فكر سيد قطب في مركز التكوين العقائدي، خصوصًا ما يتعلّق بـ"الحاكمية" ورفض النظم السياسية القائمة. وتتحول حلقات الدراسة إلى مساحات تعبئة فكرية تقوم على مبدأ السمع والطاعة لا النقاش الحر.
تبلغ هذه العملية ذروتها في ما يُعرف داخل التنظيم بـ"جماعات الصفوة"، وهي المستويات العليا التي يُعاد فيها بناء الشخصية الإخوانية بشكل كامل. في هذه المرحلة، تُقطع الأواصر الفكرية والنفسية مع المجتمع الخارجي، ويُعاد تشكيل الهوية لتتطابق مع "الكيان التنظيمي". يُطلب من العضو أن يقدّم البيعة، ويلتزم بحضور اجتماعات سرية، والامتثال التام للأوامر، ولو خالفت قناعاته أو مشاعره. وهنا تصبح الجماعة لا مجرد أداة تنظيمية، بل سلطة شاملة تتحكم في الوعي والسلوك، وفقًا لنموذج غسيل الأدمغة الذي يحلّل دانيال بيك أبعاده النفسية والسياسية بدقة.
الأسطورة المؤسسة: الإمام، الجماعة، والغاية المقدسة
يُشير دانيال بيك في تحليله لآليات غسيل الأدمغة إلى أن أي منظومة فكرية شمولية تحتاج إلى ما يُعرف بـ"الأسطورة المؤسسة"، وهي قصة رمزية أو شخص مؤله يُمنح سلطة معنوية مطلقة، تُبنى حوله العقيدة وتُرسم في ضوئه الحدود بين الحق والباطل. في تجربة جماعة الإخوان المسلمين، تحوّل مؤسس الجماعة، حسن البنا، إلى هذه "الأسطورة"، حيث لم يُقدَّم كداعية أو مفكر فحسب، بل كملهم ومجدد ومرشد رباني لا يُخطئ. كل ما قاله البنا – من رسائل تربوية إلى خطب سياسية – اعتُبر مرجعية نهائية لا تقبل الجدل، وكأنها نص ديني فوق الشبهات.
ضمن هذه البنية الرمزية، تحتل البيعة مكانة مركزية في التنظيم الإخواني. فهي ليست مجرد التزام تنظيمي، بل تُقدَّم للأعضاء على أنها "عقد شرعي" يُبرَم أمام الله، يُلزم العضو بطاعة القيادة في المنشط والمكره. وهذا ما يجعل الخروج على التنظيم، أو مجرد انتقاد قراراته، يُنظر إليه على أنه خيانة لله ورسوله، وليس مجرد اختلاف سياسي. هذه البيعة تُستخدم أداة نفسية لضبط الانفعالات والقرارات، وإحلال الطاعة محل التفكير الفردي، في نمط يُعيد إنتاج ما يسميه بيك "الانتماء المغلق"، حيث الولاء للتنظيم يسمو فوق كل انتماء آخر، بما في ذلك الأسرة والوطن.
تتجاوز القداسة شخص المرشد لتشمل الجماعة ذاتها، التي تُقدَّم للأعضاء باعتبارها جماعة الحق، وجماعة المسلمين، ومن ينضم إليها فهو من “الطائفة المنصورة”، ومن يبتعد عنها فهو إما ضال أو عميل. هذه الصورة تُربى في نفوس الأعضاء منذ مراحلهم الأولى، فيقال لهم: "أنتم الأمل"، "أنتم الفرقة الناجية"، "أنتم أمل الأمة". ويصبح الهدف – "إقامة الخلافة" أو "التمكين لدين الله" – غاية مقدسة تُبرر كل الوسائل، بما فيها الكذب، والخداع، والسرية، والتقية السياسية. وهذا ما يجعل التنظيم يتحرك ككيان مغلق أيديولوجيًا، يرى في نفسه ظلًّا لله على الأرض.
في ظل هذا المناخ المشحون بالرموز المقدسة، تصبح حرية التفكير عبئًا نفسيًا على العضو، ويُجرَّم النقاش الداخلي باعتباره بوابة "للريبة والفتنة". ويصل الأمر أحيانًا إلى فصل الأعضاء أو محاسبتهم تنظيميًا إن عبّروا عن شكوكهم أو تساؤلاتهم. كل شيء – من القراءة إلى العلاقات الاجتماعية – يُعاد توجيهه وفق "الإطار التنظيمي" الذي يتحكم في تفاصيل الحياة. كما يقول بيك، فإن العقل يُسجن دون قيد مادي، بل داخل منظومة من الأفكار والرموز التي تُفرغ العقل من استقلاله، وتُعيد برمجته ليعمل داخل نفق فكري مغلق، لا يرى فيه إلا ما يُحدده التنظيم، ولا يسمع إلا ما يُبثّ له من داخل جدرانه.
الإعلام الدعوي: أدوات الدعاية الناعمة
في العصر الحديث، أدركت جماعة الإخوان المسلمين أهمية الإعلام بوصفه أداةً استراتيجية في تشكيل الوعي العام وتوجيه الرأي الجمعي. لم تعد الخُطَب في المساجد والمنشورات المطبوعة كافية، بل تطورت أدوات الجماعة لتشمل قنوات فضائية ناطقة باسمها، مثل "مكملين" و"الشرق"، التي تبث خطابًا دينيًا وسياسيًا موحدًا، يعتمد على إثارة العاطفة الدينية، وإعادة سرد الأحداث بطريقة تؤكد على "مظلومية الجماعة" وتُدين خصومها باعتبارهم خصومًا للإسلام ذاته.
اعتمد إعلام الإخوان على إنتاج مواد بصرية ذات تأثير عاطفي قوي، كفيديوهات تُظهر شبابًا يُعذَّبون أو نساءً يُسحَلن، مع خلفيات صوتية مؤثرة وأناشيد دينية. هذه المواد لا تُقدَّم كمجرد توثيق، بل تُركّب بطريقة درامية تقصد إثارة مشاعر الغضب والانتماء في آنٍ واحد، ما يُعيد تشكيل المتلقّي ككائن "غاضب ومُتديّن"، جاهز للانخراط في المشروع الجماعي للجماعة دون مراجعة عقلانية.
تركز روايات الجماعة الإعلامية على تضخيم كل حادثة قمع أو اعتقال أو حظر، لتحوّلها إلى "دليل قاطع" على أن الجماعة هي المستهدفة دائمًا، وأنها تدفع ثمن "التمسك بالحق". يُعاد تدوير هذه الروايات بشكل دوري، لتُشكّل سردية متكاملة حول "الطهر الأخلاقي" للإخوان في مقابل "فساد الدولة والمجتمع"، وهو ما ينتج عقلية محاصَرة، تشعر بالتهديد الدائم، وتعتبر الدفاع عن الجماعة دفاعًا عن الإسلام نفسه.
تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة رئيسية لتجنيد الأفراد، لا سيما فئة الشباب. استخدم الإخوان هذه المنصات لبناء شبكة من الحسابات والمحتويات التي توظّف المزج بين الدين والسياسة، وتروج لفكرة أن الجماعة هي "الطريق الوحيد إلى الخلاص" في زمن الانهيار الأخلاقي والسياسي. كما تم توظيف "الترندات" والقضايا الآنية لترويج خطاب استقطابي، يُقسّم العالم إلى "معنا" و"ضدنا".
من خلال هذا الإعلام الدعوي، لا يُقدَّم الإخواني كفاعل سياسي عادي، بل كـ"ضحية مؤمنة" تعاني بسبب إيمانها وصدقها. يصبح الانتماء للجماعة مرادفًا للانتماء للإسلام ذاته، والمعارضة لها تُساوى بمخاصمة الله والدين. هذه الثنائية الخطرة (إما معنا أو ضد الله) تُغلق الباب أمام أي حوار عقلاني، وتفتح الطريق أمام تبرير العنف باعتباره "جهادًا" ضد الظلم والكفر.
المنهج التربوي: هندسة العقول
يتّبع الإخوان المسلمون ما يمكن وصفه بـ"النظام التعليمي الموازي"، حيث يُلقَّن الأعضاء منذ المراحل الأولى محتوىً معرفيًا خاصًا لا يُتاح للرأي العام. تُستخدم كتب داخلية غير منشورة تُركّز على مفاهيم مثل "الولاء للجماعة"، و"فقه التمكين"، و"المفاصلة مع المجتمع الجاهلي". لا تُعرض هذه المقررات في العلن، بل تُقدَّم في جلسات مغلقة، وغالبًا ما يُشترط على العضو عدم تصويرها أو مناقشتها خارج الدائرة التنظيمية. مثال على ذلك: كتيب "دروس في التربية الإخوانية" الذي يتم تداوله داخل الأسر التربوية فقط، ويعتمد على تأويلات خاصة للنصوص الدينية.
في الجلسات التربوية المغلقة، يُعاد تشكيل وعي الأعضاء من خلال دروس تركز على مفاهيم مثل "الخلافة القادمة"، و"التمكين"، و"الطليعة المؤمنة"، مما يعزز الإحساس بالدور التاريخي للجماعة. يتكرس في ذهن المتلقّين أنهم في مهمة إلهية، وأنهم ورثة الأنبياء في قيادة الأمة. هذه الدروس لا تُقدَّم بوصفها مادة دينية فقط، بل كخطط استراتيجية للهيمنة على الدولة والمجتمع. إحدى القصص المتداولة في هذه الدروس، على سبيل المثال، تتحدث عن طفل نشأ في أحضان الجماعة، وعندما أصبح ضابطًا في الجيش، ساهم في "نصرة المشروع الإسلامي" من الداخل.
تقوم الجماعة على إعداد ما يُسمى بـ"الإنسان الإخواني النموذجي"، من خلال برامج سلوكية دقيقة تشمل القراءة الأسبوعية الموجَّهة، وحلقات النقاش المضبوطة، والعمل الجماعي المنظم، والصيام التطوعي، و"جهاد النفس". الهدف من هذه البرامج ليس تهذيب السلوك فحسب، بل محو التمايزات الفردية وإعادة إنتاج شخصية جماعية مطيعة، لا تتساءل ولا تراجع. هذا النوع من "الهندسة النفسية" يشبه ما وصفه بيك بـ"تفكيك الفرد وإعادة تركيبه". وفي إحدى الأسر، يُطلب من العضو الشاب الامتناع عن حضور مناسبات عائلية "مختلطة"، كنوع من التدريب على الزهد في المجتمع.
يتم بناء صورة "الآخر" داخل هذا المنهج بوصفه إما جاهليًا منحرفًا (حتى لو كان مسلمًا لا ينتمي للجماعة)، أو عدوًا صريحًا لله ورسوله. تُشيطن المؤسسات الأخرى – كالمدرسة، والجامعة، والإعلام، بل وحتى المسجد الرسمي – باعتبارها أدوات في يد "الطاغوت". بهذه الطريقة، يُكرَّس شعور بالعزلة النفسية والتنظيمية، ويُربَّى العضو على أن الجماعة فقط هي الحامل الشرعي للدين. وفي بعض جلسات التربية، يتم تحليل خطب علماء الأزهر بطريقة تسخر منهم وتقدّمهم كعملاء للسلطة، بينما يُرفع شأن رموز الجماعة كأنهم "أولياء الله الصالحين".
نهاية التفكير، بداية الطاعة
لا يُعنى غسيل الأدمغة، بحسب دانيال بيك، بإقناع الأفراد أو إتاحة المجال أمامهم لتكوين قناعات حرة، بل يهدف بشكل مباشر إلى تعطيل قدرتهم على التفكير النقدي وتحويلهم إلى أدوات طيّعة في يد المنظومة. هذه العملية لا تتم بالضرورة عبر القمع أو العنف، بل من خلال خلق بيئة فكرية مغلقة، تَصِف كل تساؤل بأنه شك، وكل نقد بأنه فتنة، وكل تأمل مستقل بأنه انحراف عن "الخط المستقيم".
في السياق الإخواني، تتجلى هذه الاستراتيجية بوضوح في الخطاب الحركي، الذي يُقدّم الانتماء للجماعة بوصفه أعلى درجات الإيمان، ويحول الولاء للتنظيم إلى نوع من "العبادة السياسية". الفرد لا يُشجَّع على تطوير فهمه الذاتي للدين أو للواقع، بل يُطالَب بتبني التفسيرات الجاهزة التي تُصدرها القيادة، دون نقاش أو مراجعة. كل رأي مغاير يُقابل بالتشكيك، وكل محاولة لمراجعة الأفكار تُعد تهديدًا لوحدة الصف.
هذه المنظومة الفكرية تُنتج عقلًا جماعيًا يذوب فيه الفرد داخل التنظيم. تنعدم الحدود بين "الذات" و"الجماعة"، ويُصبح التفكير المستقل نوعًا من الخيانة. تظهر عبارات مثل: "السمع والطاعة"، و"لا اجتهاد مع النص الحركي"، كأنها شعارات مقدسة تُرسِّخ قيم الانقياد الأعمى والانصياع التام، لا لقيم الإسلام بالضرورة، بل لمتطلبات التنظيم.
ولعل الأخطر من كل ذلك أن الإصلاح الداخلي يُعاد تعريفه ضمن هذه المنظومة باعتباره مؤامرة. كل من يحاول نقد البنية التنظيمية أو المراجعة الفكرية يُتهم بالخروج على الجماعة، حتى لو كان مخلصًا للفكرة الإسلامية نفسها. وهكذا تتحول الجماعة إلى "مقدّس بديل"، يحل محل الدين نفسه في الوجدان الجمعي لأفرادها، وتبدأ الطاعة حيث تنتهي حرية العقل.
الإخوان كنموذج واقعي لآليات غسيل الدماغ
رغم أن كتاب "غسيل الأدمغة" لدانيال بيك لا يتناول جماعة الإخوان المسلمين بالاسم، فإن الأدوات والمفاهيم التي يعرضها تساعدنا على تفكيك الأساليب التي تستخدمها الجماعة في تشكيل أتباعها. من خلال هذا المنظور، تبدو الجماعة وكأنها نموذج حيّ لمنظومة تهدف إلى إعادة برمجة العقل البشري، تبدأ من التحكّم باللغة المستخدمة داخل الجماعة، وتطويع المصطلحات لخدمة أهدافها العقائدية والتنظيمية، بحيث تتحوّل اللغة نفسها إلى أداة ضبط وتوجيه، لا وسيلة حرة للتفكير والنقاش.
تبدأ عملية الغرس العقائدي مبكرًا، من خلال أنظمة التعليم الموازي التي تصممها الجماعة لأعضائها، وتستمر عبر حلقات تربوية مغلقة، ومواد دعوية تُقدَّم على أنها حقائق مقدسة غير قابلة للنقاش. يتعلّم الفرد أن يرى العالم من زاوية واحدة، ويُربّى على ثنائية "نحن" و"هم"، حيث "نحن" هم الطاهرون المخلصون، و"هم" هم الضالّون أو العملاء أو المرتدّون. وهكذا يتم طمس أي قدرة على النظر النقدي أو التفكير المركّب، لصالح يقين جامد يُغلّف بالعقيدة.
في هذا السياق، لا تعود القيادة مجرد إدارة تنظيمية، بل تتحوّل إلى رمز مقدّس، يُحيط به هالة من العصمة والقداسة، تجعل الطاعة له واجبًا شرعيًا وأخلاقيًا. ويتم تصوير أي اختلاف مع هذا الخط كتمرّد على الجماعة، بل وعلى الدين ذاته. وبهذا تترسخ حالة من الذوبان الكلي في التنظيم، حيث تفقد الذات الفردية خصوصيتها واستقلالها، ليُعاد تشكيلها وفق نمط "الجندي الداعية" أو "الإنسان الإخواني" الذي يعيش للتنظيم ويموت من أجله.
قراءة تجربة جماعة الإخوان من زاوية "غسيل الأدمغة" تكشف عن عمق الأزمة التي نواجهها مع هذا النمط من الحركات. نحن لا نتعامل مع كيان سياسي تقليدي يمكن التفاوض معه أو إصلاحه، بل مع مشروع يهدف إلى تصنيع الإنسان نفسه، وتوجيهه منذ الطفولة ليكون أداة بيد التنظيم. وحين ينجح هذا المشروع، يصبح الإنسان لا يرى في القتال والتضحية بالنفس شيئًا مستغربًا، بل واجبًا مقدسًا يُؤدى بلا تردد، لأن التفكير نفسه قد توقف… والطاعة أصبحت هي الحقيقة الوحيدة.