أخبار عاجلة
إصابة صغيرة بطلق ناري طائش في قنا -

خطاب داعش الأخير.. نبوءة الفوضى أم محاولة تجنيد يائسة؟

خطاب داعش الأخير.. نبوءة الفوضى أم محاولة تجنيد يائسة؟
خطاب داعش الأخير.. نبوءة الفوضى أم محاولة تجنيد يائسة؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى ظل تصاعد النشاط الإعلامى لتنظيم داعش خلال الأشهر الأخيرة، يبرز خطاب التنظيم بوصفه أداةً استراتيجية لا تقل خطورة عن عملياته الميدانية.

فكل عدد من صحيفة «النبأ» ليس مجرد نشرة داخلية أو مادة دعائية، بل يمثل وثيقة فكرية تعكس تحولات التنظيم وتكشف عن نواياه المقبلة.


من هنا، تكتسب القراءة النقدية لافتتاحية العدد الأخير 505 والصادر مساء الخميس 24 يوليو 2025، أهمية مضاعفة، إذ تكشف ما وراء السطور من توجهات أيديولوجية ورسائل موجّهة بدقة إلى جمهوره المستهدف.
سنحاول في هذه القراءة تحليل الافتتاحية من زوايا متعددة، بدءًا من بنيتها الخطابية، والمفردات التى تعيد إنتاج «العقيدة الجهادية»، وصولًا إلى استراتيجيات الإقناع وبثّ الكراهية التى يستخدمها التنظيم.

كما سنقف على كيفية تصوير «العدو»، وتحديد «الذات المؤمنة»، ورسم خريطة الصراع على نحو حتمى لا يقبل التسويات، مما يعزز ثنائية «نحن مقابل العالم»، ويمنح أنصار التنظيم شعورًا بالاصطفاء الدينى والوجودى.


ولأن الخطاب لا يعمل فى الفراغ، سنرصد السياق الزمنى والسياسى الذى جاءت فيه هذه الافتتاحية، ونسأل: ما الرسائل الضمنية التى يحاول داعش إيصالها؟ ولماذا الآن؟ وما دلالات التكرار اللافت لبعض المصطلحات والمفاهيم مثل «التوحيد»، «الولاء والبراء»، و«الردة الجماعية"؟ هذه الأسئلة تمثّل مدخلًا لفهم العلاقة بين النص الجهادى والواقع المتحوّل، وتكشف عن المخاطر الكامنة فى الخطاب أكثر من السلاح.


وختامًا، لن تكتمل هذه القراءة دون الوقوف عند التحديات التى يفرضها هذا الخطاب على صناع القرار، وعلى الباحثين، وعلى المؤسسات الدينية والفكرية. فالتنظيمات الجهادية لا تُهزم فقط بالرصاص، بل تحتاج إلى هزيمة معرفية ونقدية تُفكّك منطقها من الداخل، وتبنى سرديات بديلة قادرة على مخاطبة من يقع تحت تأثيرها.


أولًا: السياق العام للخطاب


تأتي افتتاحية العدد ٥٠٥ من صحيفة «النبأ» فى وقت يشهد فيه تنظيم داعش حالة من التراجع الميدانى والانكماش الاستراتيجى فى معظم مناطق نفوذه التقليدية، سواء فى سوريا والعراق أو فى مناطق غرب أفريقيا والساحل.


لم تعد للتنظيم القدرة السابقة على السيطرة الفعلية على مساحات جغرافية واسعة أو إعلان ولايات جديدة ذات طابع إدارى وأمنى، كما كان يحدث بين ٢٠١٤ و٢٠١٧. وقد أدى هذا الانحسار إلى تقلص فعاليته العملياتية وتحوله من تنظيم يطمح إلى «خلافة» إلى شبكة عنقودية تعتمد على تكتيكات الكر والفر.
هذا التراجع الميدانى لا يمكن فصله عن الضربات المركزة التى تلقاها التنظيم من قبل تحالفات دولية وإقليمية فى الأشهر الماضية، لا سيما فى العراق وسوريا ومنطقة الساحل الأفريقى. فالأجهزة الأمنية كثفت عملياتها الاستباقية، وقُتل عدد من القيادات الوسطى فى التنظيم، كما تم تفكيك خلايا نائمة وضرب مراكز تمويل وإمداد لوجستى. كل ذلك أدى إلى تآكل بنية القيادة والاتصال لدى التنظيم، وأثر سلبًا على الروح المعنوية لعناصره، خصوصًا فى الصفوف الدنيا والمحيطة.


بالتوازى مع الضربات الأمنية، بات التنظيم يواجه أزمة فى الحاضنة الاجتماعية التى كانت تؤمّن له الغطاء الشعبى أو المجتمعى فى بعض المناطق. فالكثير من المجتمعات التى عانت من حكم داعش القمعى أو من الفوضى التى أعقبت تمدده، أصبحت أكثر رفضًا له، وأكثر ميلًا للتعاون مع الحكومات أو القوى المحلية لطرده.


كذلك، تعيش بعض ولايات التنظيم صراعات داخلية أو تنازعًا على القيادة والشرعية، ما يعمّق حالة الانقسام والانكفاء التنظيمى.


فى ظل هذا المناخ المتأزم، يبدو أن الافتتاحية جاءت لتلعب دورًا تعبويًا نفسيًا، أكثر منه تحليليًا أو توجيهيًا استراتيجيًا. فهى تحاول إعادة إحياء الروح القتالية فى صفوف المقاتلين عبر استدعاء رموز التمكين الأولى والتذكير بالتضحيات الأولى ومكانة «الشهادة».


وذلك بهدف سدّ الفجوة بين الواقع المهتز والوعود العقائدية السابقة بالنصر والتمكين. باختصار، الافتتاحية تمثّل محاولة لإعادة شحن الأتباع المحبطين، وتحصينهم عقديًا ضد الشك والتفكك والانشقاق.


ثانيًا: التحليل الخطابى – بنية الخطاب وأساليبه


تمثل افتتاحية العدد ٥٠٥ من صحيفة «النبأ» نموذجًا مكتملًا لخطاب تعبوى أيديولوجى، يستخدم أدوات لغوية واستعارية شديدة الشحنة النفسية والعقائدية.


فالخطاب هنا ليس مجرد سرد لأفكار أو شعارات، بل هو بناء لغوى متكامل يُراد به تشكيل الوعى، وتوجيه الانفعالات، وتثبيت مواقف محددة تجاه العالم والذات والآخر. تنتمى هذه البنية إلى ما يمكن تسميته بـ"الخطاب الجهادى الحتمي»، الذى يرفض النقاش أو التأويل، ويعتمد على ثلاث ركائز خطابية رئيسية: اللغة القتالية المكثفة، وثنائية الحق والضلال، وتغييب الواقع ومسحه رمزيًا. وسنحلل كل واحدة منها فيما يلى:
١) المفردات وتكثيف المعانى الجهادية:
الافتتاحية تعتمد على حقل دلالى يتمحور حول مفردات العنف الدينى: «القتال»، «الدماء»، «الجماجم»، «التمكين»، «الشهادة»، «الجراح»، «ضريبة الشريعة»، و«الطريق الوحيد».
هذه الكلمات ليست مجرد أوصاف لحالة ميدانية، بل هى أدوات رمزية تغذى سردية التنظيم عن «طريق الخلاص الدموي»، وتربط بين الجنة وسفك الدماء فى سبيل «تحكيم الشريعة».
إنها لغة مصمَّمة لإثارة الغريزة الدينية والانفعالية فى نفس المتلقى، وجعل العنف يبدو وكأنه طقس تعبدى أو قدر إلهى.
لا مكان فى هذا الخطاب لمفردات مثل «الحكمة»، «البلاغ»، «الإصلاح»، «الحوار»، أو حتى «النصح». فالدعوة السلمية، والعمل السياسى، والوسائل المدنية، جميعها تُقصى من النص بوصفها مسالك لا تُفضى إلى «تحقيق التوحيد».
بل إن استخدام مفردة «الطريق الوحيد» مرارًا يشير إلى نفى شرعية أى اجتهاد بشرى خارج عن النموذج القتالى. وبهذا، يُغلق الخطاب كل الأبواب غير باب السلاح.
اللغة القتالية هنا لا تعمل فقط على بث الإيمان بعدالة «المعركة»، بل تلعب دورًا نفسيًا مزدوجًا: فهى من جهة تُشعر المقاتل بأنه فى «حالة طهر»، ومن جهة أخرى تمنح القارئ شعورًا بالبطولة والانتماء لقضية مقدسة. وهذا ما يجعل الخطاب محفّزًا على العنف، لا فقط من الناحية العقدية، بل من الناحية الشعورية أيضًا.
٢) ثنائية الحق/الضلال:
الخطاب يبنى رؤية ثنائية صارمة للعالم: «إما أن تكون مجاهدًا فى سبيل الله، أو تكون ضالًا غارقًا فى الجاهلية». هذه الثنائية تُستحضر باستمرار لتصنيف الناس وفقًا لموقفهم من الجهاد الدموى. فنجد فى النص جملًا مثل: «من اختطّ له طريقا غير التوحيد... فقد ضل الطريق»، وهى صياغات لا تسمح بدرجات أو حلول وسط، بل تفرض الانتماء المطلق أو الإقصاء الكامل.
من اللافت أن النص لا يستخدم ألفاظًا صريحة فى التكفير مثل «كافر» أو «مرتد» عند الحديث عن المخالفين، لكنه يعتمد على تلميحات قوية تجعل المتلقى يستنتج ذلك ضمنًا. فكل من لا يشارك فى القتال يُوصَف بأنه «ضل الطريق»، «زيّن له الشيطان سوء عمله»، «استبدل منهاج النبوة بمناهج الجاهلية»، وهى أوصاف تقود ضمنًا إلى تكفير سياسى وأخلاقى.
هذه الثنائيات تصنع ذهنية مغلقة ترفض الاختلاف وتلغى التفكير النقدى. فهى تجعل من الجهاد القتالى ليس خيارًا، بل ضرورة عقدية لا مجال للاجتهاد فيها. كما أنها تدفع الأفراد إلى ممارسة العنف ضد كل من يختلف عنهم، بما فى ذلك من يُفترض أنهم شركاؤهم فى العقيدة. وهنا تكمن خطورة هذا النمط الخطابى الذى يحوّل الخلاف إلى «ردة» والخصومة إلى «جاهلية».
٣) المسكوت عنه: تغييب الواقع السياسى والاجتماعى:


رغم ضخامة التحديات التى تواجه التنظيم، لا يتوقف الخطاب لحظة واحدة للتفكير فى أسباب هذه التراجعات أو محاسبة الذات. فلا يُذكر فشل «الخلافة» فى إدارة مناطقها، ولا تُناقش الانتهاكات التى ارتكبتها ضد المدنيين، ولا يُطرح سؤال واحد عن أسباب انهيار الحاضنة الشعبية فى الموصل والرقة وغيرهما. يتم تجاهل الواقع بالكامل لصالح رواية أسطورية عن النقاء العقدى والصبر على طريق التمكين.
الخطاب يُفسّر الفشل دائمًا ضمن منطق الابتلاء والتمحيص، فى محاولة لحماية البنية العقائدية من الانهيار، فالقتل، والأسر، والفقر، والتشريد، كلها تُصوَّر كاختبارات إلهية للمؤمنين، لا كأخطاء فى التنظيم أو المنهج. وهذا يحصّن التنظيم من أى مراجعة نقدية داخلية، ويمنع المحبطين من مساءلة القادة أو التشكيك فى جدوى المشروع.
بمسح الواقع وإحلال عالم رمزى أسطورى مكانه، يعيد الخطاب تشكيل وعى الأتباع على أساس «المعركة المقدسة» لا الأحداث الحقيقية. يتم تصوير العالم كله كجبهة قتال بين «المجاهدين الموحدين» و«المرتدين والصليبيين»، ما يُقصى السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ، ويحوّل الإسلام إلى ساحة دم فقط، لا منظومة حضارية متكاملة.


ثالثًا: التأثير والتحريض – كيف يغذى الخطاب الإرهاب؟


الوظيفة الأساسية لافتتاحية «النبأ» ليست مجرد عرض مواقف عقائدية أو تنظيرية، بل تعبئة وتحريض مباشر للأتباع والحلفاء المحتملين. إننا أمام خطاب مصمم بعناية لخدمة أغراض التحشيد، وتجنيد عناصر جديدة، وإعادة إحياء الدافع القتالى لدى المنهكين من المعارك أو المترددين فى الانضمام.
فهو خطاب موجّه إلى ما يمكن تسميته بـ«جمهور ما بعد الانكسار»، حيث تتراجع دوافع الانتماء ويضعف الالتزام الأيديولوجى بفعل الهزائم، فيكون الحلّ بطرح خطاب يستدعى الرمزية الدينية، ويقدّس العنف، ويبرر الهزيمة، ليصنع من الفوضى منبرًا لبعث جديد. وفيما يلى أبرز آليات هذا التحريض:


١) إضفاء الشرعية على العنف:


الخطاب يقدّم القتال ليس كوسيلة اضطرارية، بل كأصل من أصول الدين، ويجعله الطريق الحتمى لتحقيق التوحيد والتمكين. فعبارات مثل: «القتال هو الطريق الأوحد» تلغى أى إمكانية لتقديم وسائل سلمية أو عقلانية بديلة. وهكذا يُصبح العنف نفسه ممارسة دينية لها بعد تعبدى، وليس مجرد تكتيك سياسى أو رد فعل ظرفى.
من خلال ربط القتال بالشهادة، والشهادة بالجنة، يُقدَّم القتل فى هذا الخطاب كأقصر طريق إلى الفوز الأبدى. العبارات التى تحتفى بـ«الجماجم»، و«الأشلاء»، و«الدماء التى تُروى بها جذور الدولة» ليست مجرد زخرف لغوى، بل بناء نفسى يخلق حالة من النشوة الزائفة المرتبطة بالعنف. هذه النشوة تجعل من فكرة الموت أمرًا محببًا بل مرغوبًا.
حين يتحول العنف إلى «عبادة»، تُغلق تمامًا إمكانية مراجعته أو انتقاده. فلا يُسأل القادة عن جدوى العمليات، ولا يُناقش الأفراد فى أخطائهم، ولا تُتاح مساحة للتفكير فى خيارات سلمية. يصبح كل نقد خيانة، وكل محاولة لتقويم المسار بمثابة شك فى العقيدة، وهكذا يُؤسّس خطاب يُحصّن نفسه من الداخل ويغذى سلوكيات العنف بلا فرامل.
٢) إثارة الحماسة والاستقطاب:
الافتتاحية تعيد تصوير «المجاهد» كشخصية بطولية خارقة، لا تخشى الموت، ولا تتراجع أمام الألم، بل ترى فى الفقر والجراح والشتات مفخرة ومقامًا. هذه الأسطورة الجهادية تُغلف بمفردات مثل: «افتراش الأرض»، «التحاف السماء»، «التضحية بالأحباب»، لتقدّم صورة رومانسية عن شخص يعيش خارج الزمن، ويجسد قضايا الأمة كلها.
النص لا يكتفى بتمجيد المجاهد، بل يهاجم الضدّ: من لم يقاتل فهو منبطح، خانع، متخاذل، يعيش فى وهم «الوطنية» أو «السلمية». هذا الفصل الثنائى يُستخدم كأداة ضغط نفسى على الشباب المتدين الذى يسعى لإثبات ذاته، فيجده مجبرًا على الالتحاق بركب العنف كى لا يُحسب ضمن «الجبناء». وهكذا يتحول الخطاب إلى ماكينة استقطاب تُغرى الباحثين عن معنى وبطولة.
يستهدف الخطاب، فى العمق، فئة من الشباب التى تعانى من انكسارات الهوية، أو الاغتراب الاجتماعى، أو الفشل الشخصى. هؤلاء يُمنَحون من خلال هذا الخطاب فرصة جديدة لحياة «ذات معنى»، يتم فيها تجاوز الحياة اليومية إلى مستوى أسطورى. فتُعرض عليهم «البطولة» لا عبر الإنجاز أو الإبداع، بل عبر المشاركة فى دوامة الدم، تحت راية مقدسة.
٣) تبرير الفشل وإعادة تسويقه كابتلاء:
من أخطر أدوات هذا الخطاب أنه لا يعترف بالهزيمة كواقع سياسى أو استراتيجى، بل يقدّمها دائمًا فى قالب دينى بوصفها «فتنة للتمحيص». تُطرح الآلام والمعاناة والأسر والتشريد على أنها «ضريبة الجنة»، كما جاء فى الآية التى استشهد بها النص: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...}. وبهذا تتحول الكارثة إلى فضيلة، والتراجع إلى دليل على قرب النصر.
حين تُفسَّر كل انتكاسة على أنها ابتلاء من الله، تُرفع المسئولية عن القادة، ويُعفى التنظيم من النقد. فلا أحد يُسائل «الدولة» عن فشلها الإدارى، ولا عن أخطائها العقائدية، ولا عن تفكك ولاياتها. فالمشكلة ليست فى القرار أو السياسة، بل فى «سنة الله فى المجاهدين»، وبالتالى لا حاجة للتغيير أو الإصلاح، بل فقط للمزيد من الصبر.
الخطاب يضع أمام المجاهد خيارين فقط، كلاهما فوز: النصر فى الدنيا، أو الشهادة فى الآخرة. هذه الصيغة تقتل الشك وتُسكت المحاسبة، وتغرى الأتباع بالصبر الطويل، ما دام النصر مؤجلًا لكنه مؤكد. وبهذا، يُحوّل التنظيم أتباعه إلى جنود دائمين فى معركة لا تنتهى، تبرّر كل ألم وتُسوّغ كل مأساة باسم «الوعد الحق».
رابعًا: الرسائل الضمنية والمخاطر المستقبلية:
فى خلفية هذا الخطاب الجهادى، لا تقتصر الخطورة على ما يُقال صراحة، بل تتجلى بصورة أعمق فى ما يُمرَّر ضمنيًا بين السطور. فهناك مجموعة من الرسائل المغلَّفة التى لا تُعلن بشكل مباشر، لكنها تُغرس فى وعى المتلقى ببطء وثبات، لتكوّن بمرور الوقت منظومة فكرية مغلقة، ترى العالم من زاوية واحدة: زاوية الصراع الدموى الذى لا يحتمل التعدد ولا الحوار.
أولى هذه الرسائل الضمنية هى إقصاء التيارات الإسلامية الأخرى، لا سيما تلك التى اختارت العمل السياسى أو الدعوة السلمية أو الإصلاح المجتمعى. فكل من لا يؤمن بـ"المنهج الجهادي» يُتهم بالانحراف أو الخيانة أو التخاذل. هذا الإقصاء لا ينطلق من اختلاف فكرى بقدر ما ينبع من منطق تكفيرى يعتبر كل من لم يحمل السلاح، خائنًا لقضية «التوحيد» أو عائقًا أمام «التمكين».
الرسالة الثانية تتمثل فى نزع الشرعية الكاملة عن الدولة الوطنية وكل أنظمتها القانونية والسياسية، بما فيها الديمقراطية والانتخابات والدساتير. لا مكان فى هذا الخطاب لفكرة المواطنة أو التعدد أو حقوق الإنسان، بل يُروَّج لفكرة أن كل أشكال الحكم القائمة باطلة، وأن السبيل الوحيد للحكم الشرعى هو «استعادة الخلافة بالسيف». هذا ما يبرر استهداف مؤسسات الدولة، من الجيش إلى الشرطة إلى القضاء، باعتبارها «أنظمة طاغوتية».
أما الرسالة الثالثة – وهى الأخطر – فهى تشريع القتال ضد المسلمين أنفسهم، عبر توسيع مفهوم «الردة» و«الولاء للطاغوت»، بحيث يشمل كل من يعيش داخل الدولة الحديثة أو يتعامل مع مؤسساتها. وهنا تظهر خطورة هذا الخطاب على تماسك المجتمعات الإسلامية ذاتها، إذ يتحوّل الصراع من مواجهة مع «العدو الخارجي» إلى حرب داخلية، تشرعن قتل الجار والزميل ورجل الشرطة وحتى إمام المسجد.
هذه الرسائل الضمنية تُهيّئ الأرض نفسيًا وعقائديًا لعودة ما يُعرف بـ"الذئاب المنفردة» و«الخلايا النائمة». فكل من يتشرب هذا الخطاب سيشعر بأن لديه تفويضًا إلهيًا لتنفيذ العنف متى أراد، ضد أى شخص أو جهة يرى أنها «مرتدة» أو «متحالفة مع الطاغوت». وبالتالى، فإن هذا الخطاب لا يُنتج فقط إرهابًا جماعيًا منظمًا، بل يُطلق العنان لإرهاب فردى متناثر، يصعب تتبعه أو التنبؤ به، وهو ما يشكّل تحديًا أمنيًا بالغ الخطورة فى المستقبل.
خامسًا: التوصيات والختام
إنّ الاقتصار على المعالجة الأمنية أو العسكرية للتنظيمات الجهادية كـ"داعش» يظلّ قاصرًا عن معالجة جذور المشكلة. فالخطاب الجهادى لا يستمدّ قوته من السلاح فقط، بل من منظومة فكرية تُشرعن العنف باسم الدين، وتمنح القتال بعدًا مقدّسًا.
لذلك، فإن تفكيك مفاهيم مثل «التوحيد السياسي»، و«تحكيم الشريعة»، و«الطاغوت»، و«الولاء والبراء»، كما تطرحها التنظيمات المتطرفة، يمثل خطوة حاسمة. هذه المفاهيم تحتاج إلى نقاش علمى رصين، يتناولها من حيث الأصول الفقهية والشرعية والسياقات التاريخية التى استُدعيت منها، مع إبراز التأويلات المسالمة والمستنيرة داخل التراث الإسلامى نفسه.
فى مقابل خطاب الجهاد والتكفير، يجب تقديم روايات دينية عقلانية وسلمية تتماشى مع الواقع المعاصر، وتستعيد روح الإسلام كدين للرحمة والعدل.
هذا يتطلب الاستثمار فى مشاريع فكرية وثقافية تستهدف الشباب، بلغة حديثة وأدوات تواصل فعالة، داخل المساجد والمدارس ومواقع التواصل الاجتماعى.
ولا بد أن يشمل ذلك دعم أصوات دينية ذات مصداقية قادرة على تقديم خطاب دينى أخلاقى يتحدى التطرف دون أن يبدو منسحبًا أو مهادنًا للسلطة.
خطاب داعش ليس جامدًا، بل يشهد تحولات مستمرة فى الشكل والمضمون. أحيانًا يتخذ نبرة تهدئة، وأحيانًا يتجه نحو تصعيد عاطفى أو تعبوى. هذه التحولات ليست عشوائية، بل تعبّر عن تغير فى الاستراتيجية أو التكتيك. لذا فإن تحليل اللغة والمصطلحات التى يستخدمها التنظيم فى منشوراته (مثل صحيفة النبأ أو الإصدارات المرئية) يمكن أن يكون بمثابة جهاز إنذار مبكر، يُنبئ بتحول قادم على الأرض، أو بمحاولة التغلغل فى بيئة جديدة. ينبغى ألا نُقلل من شأن وسائل الإعلام التى تصدرها التنظيمات الجهادية. فهى ليست مجرد نشرات إخبارية أو بيانات دعائية، بل أدوات ممنهجة لبناء العقيدة، وتعبئة الأنصار، وتجنيد الأفراد.
صحيفة «النبأ»، على سبيل المثال، تُكتب بلغة فقهية منظمة، تُسوّغ العنف بمراجع دينية وتُعيد صياغة الواقع بلون دينى تعبوى. لذلك، من الضرورى التعامل معها كجزء من الحرب النفسية التى تشنها هذه الجماعات، وتدريب المتخصصين على تحليلها ونزع فتيل تأثيرها فى الفضاء العام.
خلاصة القول:
افتتاحية العدد ٥٠٥ من «النبأ» ليست مجرد مقال، بل بيان تعبوى يستبطن استراتيجية نفسية وعقدية لإدامة العنف، وتبرير الانهيارات، واستقطاب المؤيدين الجدد. هى مرآة واضحة لنهج لا يرى فى الحياة سوى طريقين: الموت أو الدم، وتلك هى الكارثة التى يجب على العالم، فكريًا وأمنيًا، أن يواجهها بوعى وحزم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق جثة في حالة تحلل بفيصل.. والتحريات تكشف غموض الواقعة
التالى ألكاراز يصل نهائي ويمبلدون