في خطوة تعكس تحولًا كبيرًا في السياسات النووية لحلف الناتو، عادت الولايات المتحدة لنشر أسلحة نووية في إنجلترا لأول مرة منذ عام ٢٠٠٨، في سياق جيوسياسي يتسم بالتوترات المتزايدة والتحديات الأمنية المعقدة.
وفقًا لصحيفة يو كيه ديفنس جورنال، تم نقل عدد من القنابل النووية الحرارية من طراز بي ٦١-١٢ من مركز الأسلحة النووية التابع للقوات الجوية الأمريكية في قاعدة كيرتلاند بولاية نيو مكسيكو إلى منشأة تخزين آمنة تم تشييدها حديثًا في قاعدة راف لاكنهيث في سوفولك.
هذا النشر يأتي بعد سنوات من تقليص الوجود النووي الأمريكي في أوروبا، ويُعد إشارة واضحة إلى إعادة تقييم استراتيجيات الردع في ظل التحديات الأمنية العالمية. وفي الوقت نفسه، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن خطة لتزويد بريطانيا بسرب مكون من ١٢ طائرة مقاتلة من طراز إف-٣٥أ، قادرة على حمل هذه القنابل، مما يعزز القدرات النووية التكتيكية للمملكة المتحدة ويعيد إحياء دورها في المشاركة النووية ضمن إطار الناتو.
تفاصيل النشر: القنابل بي ٦١-١٢ ودور طائرات إف-٣٥أ
وفقًا لصحيفة الجارديان، ستتمركز طائرات إف-٣٥أ في قاعدة راف مارهام في نورفولك، حيث من المرجح أن تُخزن القنابل النووية بي ٦١-١٢، وهي أسلحة تكتيكية متطورة تتميز بقدرات توجيه دقيقة وقوة تدميرية متغيرة تتراوح بين ٠٫٣ و٥٠ كيلوطن. هذه القنابل، التي تُعد جزءًا من ترسانة الولايات المتحدة النووية الحديثة، مصممة للاستخدام في سيناريوهات ميدانية محدودة، مما يميزها عن صواريخ ترايدنت الاستراتيجية المحمولة على الغواصات البريطانية، والتي تُصمم كرادع للجوء الأخير بقوة تدميرية تصل إلى ستة أضعاف قنبلة هيروشيما.
وفقًا لصحيفة يو كيه ديفنس جورنال، تتوافق هذه القنابل مع منصات متعددة، بما في ذلك طائرات إف-٣٥أ التي يشغلها الجناح القتالي ٤٨ في قاعدة راف لاكنهيث، والذي يضم سربي ٤٩٣ و٤٩٥، وهما من أوائل السربين في أوروبا لتشغيل هذا الطراز. هذا النشر يعيد بريطانيا إلى امتلاك قدرات نووية محمولة جوًا لأول مرة منذ إلغاء قنبلة دبليو إي ١٧٧ عام ١٩٩٨ في عهد حكومة توني بلير، مما يمثل عودة إلى دور نشط في الردع النووي التكتيكي.
إطار المشاركة النووية: ترتيبات الناتو ودور بريطانيا
وتندرج هذه الخطوة ضمن إطار "المشاركة النووية" التابع لحلف الناتو، وهي ترتيبات تعود إلى الحرب الباردة وتُطبق حاليًا في دول مثل ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وتركيا. وفقًا لصحيفة الجارديان، ستظل القنابل بي ٦١-١٢ تحت السيطرة التشغيلية للرئيس الأمريكي، بينما ستُشغل طائرات إف-٣٥أ بواسطة طيارين بريطانيين تابعين لسلاح الجو الملكي. في حالة نشوب نزاع، يتطلب استخدام هذه القنابل موافقة سياسية صريحة من مجموعة التخطيط النووي التابعة للناتو، بالإضافة إلى تصريح مشترك من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني.
ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أن هذه العملية قد تواجه تحديات لوجستية في أزمة كبرى، حيث قد لا يكون هناك وقت كافٍ لعقد اجتماعات اللجان. يعكس هذا النظام توازنًا دقيقًا بين السيادة الوطنية والتزامات الحلف، حيث تمتلك الولايات المتحدة القنابل بموجب اتفاقيات عدم انتشار الأسلحة النووية، بينما تتولى بريطانيا تشغيل الطائرات، مما يعزز التكامل العسكري بين الحلفاء.
الخلفية التاريخية والتحضيرات اللوجستية
وفقًا لصحيفة يو كيه ديفنس جورنال، استضافت قاعدة راف لاكنهيث أسلحة نووية أمريكية خلال الحرب الباردة، لكن تم إزالتها عام ٢٠٠٨ كجزء من جهود تقليص التسلح في أوروبا بعد انتهاء التوترات الكبرى لتلك الفترة. ومع ذلك، بدأت التحضيرات لعودة هذه الأسلحة منذ عام ٢٠٢٢، عندما أشارت وثائق الميزانية الأمريكية إلى تخصيص أموال لترقية البنية التحتية في لاكنهيث لتكون جاهزة للمهام النووية، بما في ذلك بناء منشآت تخزين آمنة. وفي الوقت نفسه، تُعد قاعدة راف مارهام، التي استضافت سابقًا قنابل دبليو إي ١٧٧ البريطانية، موقعًا محتملًا لتخزين القنابل بي ٦١-١٢، حيث تمتلك منشآت تخزين قديمة يمكن إعادة تأهيلها لهذا الغرض، وفقًا لصحيفة الجارديان.
يُشار إلى أن هذه الخطوة تأتي بعد قرار بريطانيا عام ٢٠٢١ بزيادة مخزونها من الرؤوس النووية بنسبة ٤٠٪، مما يعكس تراجعًا عن جهود نزع السلاح العالمية لصالح تعزيز القدرات النووية في مواجهة التحديات الأمنية المتغيرة.
التكاليف الاقتصادية والنقاشات السياسية
وفقًا لصحيفة الجارديان، تُقدر تكلفة اقتناء ١٢ طائرة إف-٣٥أ بحوالي ٩٠٠ مليون جنيه إسترليني، إذ تتراوح تكلفة الطائرة الواحدة بين ٧٥ و٨٠ مليون جنيه إسترليني. ومع ذلك، لم تُفصح السلطات عن تكاليف إعادة تأهيل منشآت التخزين في قاعدتي راف مارهام أو راف لاكنهيث، مع توقعات بأن تتجاوز الاستثمارات النووية البريطانية ١٠٠ مليار جنيه إسترليني خلال العقد القادم.
في الماضي، كان البرلمان البريطاني يصوت على خطط استثمار صواريخ ترايدنت، لكن لم يتضح بعد كيف سيتم استشارة البرلمان بشأن هذا النشر الجديد، مما قد يثير جدلًا سياسيًا داخليًا.
يرى بعض الخبراء أن هذا الغموض قد يؤدي إلى توترات في الرأي العام، خاصة مع تاريخ بريطانيا الطويل من الاحتجاجات ضد الأسلحة النووية، كما حدث في قاعدة راف غرينهام كومون خلال الحرب الباردة، حيث نظمت جماعات مناهضة للأسلحة النووية مظاهرات حاشدة.

ويثير هذا النشر نقاشات متباينة بين المراقبين والخبراء حول جدواه وتداعياته. يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين أن نشر القنابل بي ٦١-١٢ في إنجلترا يعزز الردع النووي لحلف الناتو، خاصة في ظل التهديدات النووية التكتيكية المحتملة من خصوم محتملين. ويؤكد هؤلاء أن التكامل بين الولايات المتحدة وبريطانيا في إطار المشاركة النووية يعزز التضامن بين الحلفاء ويرسل رسالة قوية حول الالتزام بمبدأ المادة الخامسة من ميثاق الناتو.
من ناحية أخرى، يحذر بعض المراقبين من أن هذا النشر قد يؤدي إلى تصعيد التوترات الدولية، خاصة مع قوى كبرى تمتلك قدرات نووية متقدمة.
كما يشير خبراء الأمن إلى أن الاعتماد على الأسلحة الأمريكية قد يثير تساؤلات حول السيادة النووية البريطانية، مقارنةً بدول مثل فرنسا التي تمتلك ردعًا نوويًا مستقلًا بالكامل.
وفي هذا السياق، يرى بعض المحللين أن بريطانيا تمتلك القدرات التقنية لتطوير أسلحة نووية تكتيكية خاصة بها، لكن ذلك يتطلب استثمارات ضخمة ووقتًا طويلًا، خاصة مع استمرار برنامج تحديث ترايدنت حتى أربعينيات القرن الحالي.
الآفاق المستقبلية والتحديات
من المتوقع أن يصبح سرب إف-٣٥أ البريطاني جاهزًا تشغيليًا بحلول نهاية العقد، مما يعزز مكانة بريطانيا كشريك رئيسي في استراتيجيات الناتو النووية. وفقًا لصحيفة يو كيه ديفنس جورنال، يُنظر إلى هذا النشر كجزء من جهود أوسع لتعزيز الردع النووي التكتيكي في المسرح الأوروبي، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية العسكرية السريعة عالميًا.
ومع ذلك، يواجه هذا القرار تحديات كبيرة، بما في ذلك احتمال إثارة احتجاجات شعبية في بريطانيا، كما حدث تاريخيًا، والحاجة إلى ضمان أمن منشآت التخزين ضد التهديدات السيبرانية والفيزيائية.