
قبل الزمان بزمان، عرفت مصر الحياة النيابية، وتأسست العديد من المجالس بأسماء مختلفة واختصاصات متنوعة.. تعرض بعضها للحل لكن الحقيقة تبقى ناصعة: لقد أرست مصر أسس العمل النيابى منذ زمن طويل، ويعد مجلس الشيوخ واحدًا من أبرز ملامح الحياة النيابية المصرية، إذ مرّ منذ نشأته الأولى في القرن التاسع عشر بسلسلة من التحولات التاريخية والتشريعية، صعودًا وهبوطًا، إنشاءً وإلغاءً، حتى استقر في صورته الحالية.
ونرصد في السطور التالية مآل المجلس التاريخية منذ التأسيس الأول عام 1824 حتى التعديلات التشريعية الأخيرة التي أقرها البرلمان المصري في يونيو 2025، مع شرح تفصيلي للقوانين الحاكمة له.
المجلس العالي ومجلس المشورة (منذ 1824)
بدأت ملامح العمل النيابي في مصر في عهد محمد علي باشا، الذي أسس عام 1824 "المجلس العالي"، أول هيئة ذات طابع استشاري وتشريعي في تاريخ مصر الحديث.
وضم المجلس كبار موظفي الدولة وبعض العلماء والتجار وأعيان المديريات، وكان يهدف إلى إشراك ممثلي الشعب في إدارة شؤون الدولة، حيث أنشىء المجلس العالي بعضوية 24 من كبار الموظفين والعلماء والتجار وأعيان المديريات، في محاولة أولى لترسيخ مبدأ التمثيل الشعبي داخل الدولة الحديثة.
وفي العام التالي، صدرت اللائحة الأساسية لتنظيم اختصاصات المجلس، فكانت النواة الأولى للعمل النيابي المؤسسي في مصر.
وفي عام 1829، تطورت التجربة بإنشاء "مجلس المشورة" برئاسة إبراهيم باشا، وبلغ عدد أعضائه 156 عضوًا، منهم 99 منتخبين من أعيان القطر المصري و57 معينين.
ورغم أن اختصاصات المجلس اقتصرت على شؤون التعليم والإدارة، فقد مثل خطوة نوعية في إشراك المواطنين في قضايا الدولة، ومقدمة حقيقية لفكرة التمثيل الشعبي التشاوري.
مجلس شورى النواب نقلة نوعية في الحياة النيابية المصرية
وشهد عام 1866 نقلة نوعية في الحياة النيابية المصرية مع إنشاء "مجلس شورى النواب" في عهد الخديوي إسماعيل، كأول مجلس نيابي تمثيلي بالمعنى السياسي الحديث.
تكوّن المجلس من 75 عضوًا منتخبًا عن المديريات والأقاليم، وانتُخب حسن بك العاصي رئيسًا له. لاحقًا، زاد عدد الأعضاء إلى 113 في دور الانعقاد الثالث.
وامتدت صلاحيات المجلس لمناقشة الشؤون الداخلية وتقديم المشورة للخديوي، وبدأ في ممارسة سلطة حقيقية، خاصة بعد إقرار مبدأ مسؤولية الوزارة أمام البرلمان عام 1879. ولكن تدخل المجلس المتزايد في شؤون الدولة، خصوصًا المالية، أدى إلى حله في العام نفسه.
الاحتلال البريطاني ومجلس شورى القوانين (1883 – 1913)
مع الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، أعاد الخديوي توفيق تشكيل الحياة النيابية بقانون نظامي صدر في 1 مايو 1883، أنشأ بموجبه "مجلس شورى القوانين" و"الجمعية العمومية". تألف مجلس شورى القوانين من 30 عضوًا، منهم 14 معينًا و16 منتخبًا، وتولى المهام التشريعية بدرجة محدودة، فلم يكن يملك حق اقتراح القوانين، بل اقتصرت سلطته على مناقشة ما تقدمه الحكومة. أما الجمعية العمومية، فكانت تضم الوزراء وأعضاء مجلس شورى القوانين وأعيان منتخبين، وتركزت مهامها على مناقشة الميزانية والضرائب.
الجمعية التشريعية وتجميد الحياة البرلمانية (1913 – 1923)
في عام 1913، صدر القانون الخاص بإنشاء "الجمعية التشريعية"، التي ضمت 83 عضوًا (46 منتخبًا و37 معينًا).
وعُقدت أولى جلساتها في يناير 1914، لكنها لم تستمر طويلًا، إذ توقفت عن العمل بعد أشهر قليلة بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى في يوليو 1914، وفرض الأحكام العرفية وتعليق الحياة النيابية.
الحياة البرلمانية الحديثة ومجلس الشيوخ في دستور 1923
بعد ثورة 1919، صدر دستور 1923 الذي أرسى نظامًا برلمانيًا من مجلسين: "مجلس النواب" و"مجلس الشيوخ".
ضم مجلس الشيوخ 147 عضوًا، يُنتخب ثلثاه ويُعين الثلث المتبقي من قبل الملك. استمر هذا النظام حتى حل البرلمان عام 1952 عقب قيام ثورة يوليو، ليبدأ عهد جديد من التحولات السياسية.
من مجلس الأمة إلى مجلس الشورى (1957 – 2013)
في ظل النظام الجمهوري، أُنشئ "مجلس الأمة" عام 1957، وتغيرت تسمياته لاحقًا إلى مجلس الشعب ث3م مجلس النواب.. حتى ظهر إلى جواره "مجلس الشورى" لأول مرة في دستور 1971.
ومع تولى الرئيس محمد أنور السادات الحكم، دعا مجلس الأمة فى 20 مايو 1971 لإعداد دستور جمهورية مصر العربية الدائم وعرضه على الشعب للاستفتاء.
وفى يوم 11 سبتمبر 1971، صدر الدستور المصرى الدائم بعد الاستفتاء الذى أجرى عليه، والذى بدأت معه مرحلة جديدة من تاريخ مصر الحديث والمعاصر. وفى ظله جرت انتخابات مجلس الشعب الذى عقد أولى جلساته فى 11 نوفمبر 1971 ثم جاء الاستفتاء الذى جرى يوم 19 أبريل 1979، والذى وافق فيه الشعب المصرى على إنشاء مجلس الشورى، وعقد مجلس الشورى أولى جلساته فى أول نوفمبر 1980، ومعه عادت فكرة وجود مجلسين تشريعيين فى الحياة النيابية.
وبموجب تعديل دستوري عام 1980، تم تأسيس مجلس الشورى كغرفة ثانية للبرلمان، تضم معينين من رئيس الجمهورية، تبلغ نسبتهم ثلث الأعضاء. وظلت اختصاصات المجلس محدودة حتى عام 2007، حين مُنح اختصاصًا تشريعيًا بالمشاركة مع مجلس الشعب، لكنه ظل فعليًا ذا تأثير ضعيف.
وفي 2012، سيطر حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان على غالبية مقاعده، ثم أُلغي المجلس بالكامل بعد عزل الرئيس المخلوع محمد مرسي في 3 يوليو 2013، ونص دستور 2014 على إلغاء الغرفة الثانية واقتصار السلطة التشريعية على مجلس النواب.
إلا أنه خرجت مطالب برلمانية بضرورة عودة مجلس الشورى للعمل التنفيذى بمؤسسات الدولة، وذلك لمعاونة مجلس النواب فى الخروج بتشريعات تفيد المواطن وتساعد فى النهوض بالدولة، وذلك للحاق بمختلف دول العالم.
عودة مجلس الشيوخ في دستور 2019 وقانون 2020
شهد عام 2019 استفتاءً دستوريًا أعاد إنشاء غرفة ثانية للبرلمان تحت مسمى "مجلس الشيوخ"، مع تحديد اختصاصاته في المواد (248 – 254) من الدستور.
المادة 248
ونصت على أن يختص مجلس الشيوخ بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بتوسيع دعائم الديمقراطية، ودعم السلام الاجتماعي، والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا، والحقوق والحريات والواجبات العامة، وتعميق النظام الديمقراطي وتوسيع مجالاته.
المادة 249
وأوجبت أخذ رأي مجلس الشيوخ فيما يأتي:
* الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور.
* مشروعات القوانين المكملة للدستور.
* مشروعات القوانين التي تُحال إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب.
* ما يُحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها في الشؤون العربية أو الخارجية.
المادة 250
يُبين القانون عدد أعضاء مجلس الشيوخ، على ألا يقل عن (180) عضوًا. ويُحدد القانون طريقة تشكيل المجلس، وعدد أعضائه المنتخبين والمعينين، وشروط الترشح والانتخاب، ونظام الانتخاب، وتقسيم الدوائر الانتخابية.
المادة 251
مدة عضوية مجلس الشيوخ خمس سنوات، تبدأ من تاريخ أول اجتماع له، ويُجرى انتخاب المجلس الجديد خلال الستين يومًا السابقة على انتهاء مدته.
المادة 252
لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الشيوخ ومجلس النواب.
المادة 253
رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وغيرهم من أعضاء الحكومة غير مسؤولين أمام مجلس الشيوخ.
المادة 254
تسري في شأن مجلس الشيوخ الأحكام الواردة بالدستور في المواد الخاصة بمجلس النواب، متى كان ذلك لا يتعارض مع الأحكام الواردة في هذا الباب، وعلى النحو الذي يبينه القانون.
اختصاصات مجلس الشيوخ المصري
منح الدستور مجلس الشيوخ اختصاصًا استشاريًا دون صلاحيات تشريعية مباشرة، إذ نصت المادة 248 على أن يختص المجلس بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بتوسيع دعائم الديمقراطية، ودعم السلام الاجتماعي، ومراجعة الاتفاقيات الدولية، وتقديم الرأي فيما يُحال إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب.
القانون رقم 141 لسنة 2020:
صدر قانون مجلس الشيوخ رقم 141 لسنة 2020، ليبدأ سريانه في يوليو 2020. ونص القانون على أن يتكون المجلس من 300 عضو، يُنتخب ثلثاهما (نصفهم بالنظام الفردي ونصفهم بنظام القوائم المغلقة المطلقة)، بينما يُعين رئيس الجمهورية الثلث الباقي.
ونصت المادة 4 على تخصيص نسبة لا تقل عن 10% من المقاعد للمرأة، والمادة 5 على اشتراط الحصول على مؤهل جامعي، وأداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها، وعدم صدور حكم جنائي سابق ضد المترشح، وتقديم إقرار الذمة المالية.
وجرت أول انتخابات للمجلس في أغسطس وسبتمبر 2020، وانعقد أول دور انعقاد له في أكتوبر من العام ذاته.
القانون رقم 84 لسنة 2025:
بينما جاءت التعديلات الجديدة التي حددها القانون رقم 84 لسنة 2025 بتعديل بعض أحكام قانون مجلس الشيوخ. شملت التعديلات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بنظامي الفردي والقائمة، ورفع عدد دوائر القائمة إلى 4 بدلًا من دائرتين، وتوزيعها جغرافيًا على النحو التالي: دائرتان بـ37 مقعدًا لكل منهما، ودائرتان بـ13 مقعدًا. كما أُعيد توزيع المقاعد الفردية وعددها 100 مقعد على 27 دائرة وفق بيانات التعداد السكاني لعام 2024.
نصت التعديلات كذلك على إلزام القوائم بـ3 نساء في قوائم الـ13 مقعدًا، و7 نساء في قوائم الـ37 مقعدًا، مع تحديد رسوم تأمين للترشح بقيمة 30 ألف جنيه للفردي، و39 ألف جنيه لقائمة الـ13، و111 ألف جنيه لقائمة الـ37.
التقسيم الجغرافي للدوائر الانتخابية حددت الجداول الملحقة بالقانون توزيع الدوائر جغرافيًا كما يلي:
- الدائرة الأولى (القاهرة وجنوب ووسط الدلتا): القاهرة، القليوبية، الدقهلية، المنوفية، الغربية، كفر الشيخ – 37 مقعدًا
- الدائرة الثانية (شمال ووسط وجنوب الصعيد): الجيزة، الفيوم، بني سويف، المنيا، أسيوط، سوهاج، قنا، الأقصر، أسوان، الوادي الجديد، البحر الأحمر – 37 مقعدًا
- الدائرة الثالثة (شرق الدلتا): الشرقية، دمياط، بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، شمال سيناء، جنوب سيناء – 13 مقعدًا.. الدائرة الرابعة (غرب الدلتا): الإسكندرية، البحيرة، مطروح – 13 مقعدًا
- أما مقاعد الفردي، فقد وُزعت بواقع 100 مقعد على 27 محافظة، بما يعكس الكثافات السكانية، فجاءت القاهرة بـ10 مقاعد، الجيزة بـ8، الشرقية بـ7، البحيرة والدقهلية بـ6، وأسيوط والمنيا وسوهاج بـ5 مقاعد لكل منها.
اختصاصات مجلس الشيوخ منذ تأسيسه حتى اليوم
تطورت الاختصاصات لمجلس الشيوخ منذ تأسيسه في القرن التاسع عشر من الاستشارة فقط إلى التشريع الكامل (1923–1952)، ثم العودة للدور الاستشاري منذ السبعينيات وحتى اليوم.
فاليوم مجلس الشيوخ المصري هو هيئة استشارية دستورية، يُؤخذ رأيه وجوبيًا في قضايا الدستور والقوانين المكملة له وبعض السياسات العامة، ويُعد ركيزة للحوار الوطني والتوازن السياسي، دون أن تكون له سلطة تشريعية مباشرة أو رقابية على الحكومة.
تطور اختصاصات مجلس الشيوخ المصري عبر التاريخ
1 البدايات (1824–1866): المجلس العالي ومجلس المشورة
* الاختصاصات: اقتصرت على المشورة في شؤون الإدارة والتعليم والزراعة، ورفع التوصيات إلى محمد علي باشا. لم يكن للمجلس أي سلطة تشريعية أو رقابية، بل كان أداة لإشراك النخبة في المشورة دون إلزام للحاكم.
2 مجلس شورى النواب ( 1866-1879)
* الاختصاصات: تطورت لتشمل مناقشة الشؤون الداخلية، وتقديم المشورة للخديوي، ومساءلة الحكومة في بعض الأمور، وظهرت ملامح الرقابة البرلمانية. بقيت السلطات محدودة ولم يكن له حق التشريع المستقل.
3 مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية (1883- 1913)
* الاختصاصات: اقتصر دور مجلس شورى القوانين على مناقشة مشروعات القوانين المقدمة من الحكومة فقط، دون حق اقتراح القوانين. الجمعية العمومية ناقشت الميزانية والضرائب، ولم يكن لأي من المجلسين سلطة تشريعية كاملة.
4 الجمعية التشريعية ( 1913-1923)
* الاختصاصات: توسعت لتشمل مناقشة مشروعات القوانين وإبداء الرأي فيها، لكن قرارات الجمعية لم تكن ملزمة للحكومة، واقتصر دورها على المشورة التشريعية.
5 مجلس الشيوخ في دستور 1923 (1924- 1952)
* الاختصاصات: أصبح مجلس الشيوخ غرفة عليا في برلمان ثنائي الغرف، وله صلاحيات تشريعية كاملة بالاشتراك مع مجلس النواب، بما في ذلك اقتراح ومناقشة وإقرار القوانين، والموافقة على الميزانية، وسحب الثقة من الحكومة، ومناقشة السياسة العامة. كان له دور رقابي وتشريعي متكامل، لكنه ظل أقل تأثيرًا من مجلس النواب بحكم التشكيل (ثلث معين من الملك).
6 مجلس الأمة ثم مجلس الشورى (1957- 2013)
* الاختصاصات:
* مجلس الأمة: (1957-1671) جمع بين التشريع والرقابة.
* مجلس الشورى (من 1980): تأسس كغرفة ثانية، واختصاصه الأساسي كان استشاريًا، يقتصر على دراسة مشروعات القوانين المحالة إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس الشعب، ومناقشة السياسات العامة، دون سلطة تشريعية كاملة. في 2007 أُضيف له حق المشاركة في التشريع لبعض القوانين، لكنه لم يمارس سلطة رقابية حقيقية على الحكومة.
* إلغاء المجلس: بعد 2013، أُلغي مجلس الشورى وأصبحت السلطة التشريعية في يد مجلس النواب وحده.
7 مجلس الشيوخ الحالي (دستور 2019–2025)
* الاختصاصات: مجلس الشيوخ هيئة استشارية دستورية، يختص بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بتوسيع دعائم الديمقراطية، ودعم السلام الاجتماعي، وتعميق النظام الديمقراطي. يؤخذ رأيه وجوبيًا في اقتراحات تعديل الدستور، مشروعات القوانين المكملة للدستور، مشروعات القوانين التي تُحال إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب، وما يحيله إليه رئيس الجمهورية من موضوعات تتصل بالسياسة العامة أو الشؤون العربية أو الخارجية. ليس له سلطة تشريعية مباشرة أو رقابية على الحكومة.




