منذ سقوط النظام السوري في أواخر عام 2024، وسوريا تقف على مفترق طرقٍ حساس، تتنازع فيها مراكز القوى المحلية والإقليمية والدولية على النفوذ، بينما يحاول المجتمع الدولي رسم ملامح نظام جديد على أنقاض حرب دامت لأكثر من عقد.
وفي هذه اللحظة الهشة من التاريخ السوري، يطل مجددًا شبح تنظيم "داعش" الذي وإن بدا في سنوات سابقة وقد طُوي صفحته، إلا أنه يثبت مرة تلو الأخرى أنه "يتنفس من فراغات الدول" ويزدهر حين تضعف المؤسسات وتنشغل الجبهات بمعارك النفوذ والسلطة.
خلال الشهور القليلة الماضية، أظهرت تقارير أمنية ومتابعات ميدانية مؤشرات واضحة على أن التنظيم بصدد تنفيذ استراتيجية "إعادة تموضع ذكية" في الساحة السورية، مستغلًا الانقسامات الحادة، والفراغات الأمنية، والتوترات بين المكونات العسكرية المختلفة. لم يعد داعش يسعى كما في مرحلة تمدده عام 2014- إلى إعلان "خلافة جغرافية" واسعة، بل بات يعمل وفق تكتيك جديد يقوم على "الضرب والانسحاب"، والتمدد عبر خلايا صغيرة تنشط في البادية، وتتسلل إلى المناطق الريفية والحدودية مستهدفة ما تبقى من مؤسسات الدولة الوليدة.
صعود خفي في مناطق النزاع
تُعد البادية السورية الممتدة بين حمص ودير الزور، وحتى تخوم الحدود العراقية، القلب النابض الجديد لحركة داعش.
هذه المناطق الصحراوية، قليلة الكثافة السكانية، تشكل ملاذًا مثاليًا لخلايا التنظيم التي تعرف كيف تتحرك بسرية تامة، بعيدًا عن أعين القوى الأمنية والعسكرية.
وخلال الأشهر الأخيرة، نفذ التنظيم عدة كمائن وعمليات تفجير استهدفت أرتالًا تابعة لقوات النظام السابق، وأخرى تابعة للجيش السوري الحر المدعوم من التحالف.
في الوقت ذاته، شهدت مناطق شرق الفرات، ولا سيما ريف دير الزور والحسكة، تحركات غير اعتيادية لعناصر داعش، مستفيدة من هشاشة التنسيق بين قوات سوريا الديمقراطية من جهة، والسلطات الانتقالية الجديدة من جهة أخرى.
هذه المساحات، التي كانت سابقًا تحت قبضة التحالف الدولي وقوات قسد، باتت اليوم مفرغة من السيطرة المحكمة، ما أتاح لداعش هامش تحرك لا يُستهان به.
من السيطرة إلى الاستنزاف
التغيير الأبرز في نهج التنظيم هو التحول من عقلية التمكين إلى عقلية الاستنزاف.
فبدلًا من التمسك بالأرض، بات التنظيم يفضل تنفيذ هجمات نوعية تُحدث ضجيجًا إعلاميًا ومردودًا دعائيًا، دون الانخراط في معارك طويلة الأمد قد تستنزفه كما حدث في الموصل والرقة.
وقد كان الهجوم على ضريح السيدة زينب، وإن أُحبط، رسالة بالغة الأثر بأن التنظيم لا يزال يملك عناصر قادرة على التخطيط لعمليات ذات بعد رمزي وطائفي كبير.
في 18 مايو 2025، فجر داعش أول هجوم مباشر على مواقع للحكومة الانتقالية في دير الزور، لتكون هذه العملية بمثابة إعلان رسمي لعودته إلى واجهة الصراع.
بعدها بأيام، تكررت الهجمات في السويداء، مستهدفة نقاط تفتيش للجيش السوري الحر، ما يعكس رغبة التنظيم في تقويض الاستقرار الهش وخلخلة الثقة بالحكومة الجديدة.
تنظيم من دون دولة.. ولكن بخريطة
ما يفعله داعش اليوم ليس "عودة إلى الخلف"، بل هو تموضع وفق خريطة مدروسة تستند إلى الفراغات السياسية والمناطق المتنازع عليها والحدود المفتوحة.
فالتنظيم يحتفظ بقنوات تهريب وتمويل من خلال الحدود السورية-العراقية، ويتحرك ضمن شبكات ممتدة عبر البادية وحتى الجنوب السوري، حيث باتت بعض خلاياه نشطة في أطراف السويداء ودرعا.
الأمم المتحدة قدرت، في تقاريرها الأخيرة، أن عدد المقاتلين النشطين لداعش في سوريا والعراق يتراوح بين 1500 و3000 عنصر، وهي أرقام وإن كانت متواضعة مقارنة بذروة التنظيم قبل سنوات، إلا أنها تعكس خطرًا حقيقيًا إذا ما استمرت البيئة المواتية لتوسعه.
التحالف الدولي يعيد حساباته
التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لم يقف مكتوف الأيدي أمام هذه العودة الخاطفة، إذ أُعيد تموضع القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا، مع الحفاظ على جاهزية الضربات الجوية الموجهة، وتكثيف التعاون الاستخباراتي مع الفاعلين المحليين. ومع ذلك، يبقى تأثير هذه التحركات محدودًا إذا لم تتكامل مع مشروع سياسي سوري شامل يتجاوز منطق التنافس العسكري والمناطقية.
بين قضم الأطراف وغض الطرف
في المشهد السوري اليوم، يخوض الجميع معاركه، بينما يتحرك داعش في المساحات التي تُغفل عمدًا أو تُترك مؤقتًا.
إنها لعبة الفراغات مجددًا، وقد أثبت التنظيم أنه لاعب بارع في ملئها.
الخلاصة
"داعش" لا يعود كما كان، لكنه لا يرحل أيضًا. وبين لحظة انكسار، وتعثر الانتقال، ومحدودية التنسيق الأمني، يجد التنظيم متسعًا كافيًا ليعيد صياغة نفسه كـ"تنظيم ظل"، لا يرفع الرايات السوداء كما في السابق، بل يتحرك بهدوء خلف خطوط النار، بانتظار غفلة جديدة أو أزمة جديدة يعبر منها إلى الضوء.