أخبار عاجلة
عاجل.. رئيس الأركان الإيراني: لا نثق بوعود ... -

الميثاق الأخطر منذ فتاوى الجهاد الأفغاني.. من يوقف زحف الفوضى؟

الميثاق الأخطر منذ فتاوى الجهاد الأفغاني.. من يوقف زحف الفوضى؟
الميثاق الأخطر منذ فتاوى الجهاد الأفغاني.. من يوقف زحف الفوضى؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في أعقاب الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، تحت اسم "عملية طوفان الأقصى"، صدر ما سُمّي بـ"ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى وتداعياته". في ٢٨ يونيو ٢٠٢٥، ولم ينشر على منصات التواصل الاجتماعي الا يوم الاحد ٦ يوليو، وقد بادر إلى توقيعه عشرات من الشخصيات والهيئات الدينية من مختلف دول العالم الإسلامي، من بينهم مفتيون، ورؤساء مؤسسات شرعية، وعلماء مؤثرون ينشطون داخل وخارج الإطار الرسمي. جاءت الوثيقة في صيغة شرعية – فقهية، استخدمت لغة دينية محضة تُفصّل الأحكام المتعلقة بالجهاد والموقف من إسرائيل، والتطبيع، ودور الأمة تجاه ما وصفته بـ"الملحمة الربانية في غزة".
غير أن الميثاق، رغم غلافه الديني، لا يمكن التعامل معه كبيان وعظي عابر، أو فتوى تقليدية محصورة ضمن سياقها الديني. بل هو خطاب تعبوي واسع النطاق، يتجاوز الحدود الجغرافية، ويضرب في عمق القضايا السيادية للدول، ويعيد تشكيل العلاقة بين الدين والسياسة، وبين الشعوب والحكومات، تحت شعار "نصرة الأقصى". كما أنه لا يُقدَّم كمجرد رأي شرعي، بل كوثيقة تعبئة جماعية، تُلزم الأمة – بكل أطيافها ومكوناتها – بواجبات دينية وعملية تتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

الدعوة إلى مقاومة مفتوحة ضد "الاحتلال" بكل الوسائل

ما يميّز هذا الميثاق – ويثير القلق في آن – هو أنه يستحضر المفردات الفقهية ليبرّر مواقف سياسية ذات أبعاد استراتيجية، منها رفض الاتفاقيات الدولية، ورفض التطبيع، وتجريم الصمت الرسمي، والدعوة إلى مقاومة مفتوحة ضد "الاحتلال" بكل الوسائل، بما في ذلك القتال، والتمويل، والإعلام، والتربية. وبهذا، يتحول الخطاب الديني إلى أداة لإعادة إنتاج مناخ الصدام، لا فقط مع إسرائيل، بل مع كل نظام لا يلتزم بمنطوق الميثاق، بما يشمله ذلك من حكومات عربية، وجماعات إسلامية معتدلة، ومنظمات دولية.
إن دلالة هذا الميثاق لا تكمن فقط في مضمونه التعبوي، بل في رمزيته وتوقيته وطبيعة الجهات الموقّعة عليه. فهو يعكس تصاعد خطاب ديني سياسي يُضفي المشروعية على أنماط من المقاومة المسلحة، خارج مؤسسات الدولة، وفي كثير من الأحيان ضد سياسات الدول ذاتها. وهو ما يفتح الباب أمام عودة موجات جديدة من التطرف العابر للحدود، ويهدد منظومة الأمن الإقليمي والدولي في مرحلة شديدة الحساسية من تاريخ الصراع في الشرق الأوسط.
من خطاب تعبوي إلى وثيقة تعبئة مفتوحة
جاء "ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى" في صيغة تعبويّة صارخة، استخدمت لغة شرعية متماسكة لتحويل الفعل العسكري الذي قادته حماس في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ إلى واجب ديني على كل مسلم، بل إلى فعل تعبدي من أعلى مراتب الطاعة. وقد تم تأصيل هذا التوجه عبر منح منفذي العملية، ومن يقف معهم، صفة "المجاهدين في سبيل الله"، وتقديمهم كـ"نواب عن الأمة" في معركة الدفاع عن المقدسات الإسلامية. هذا التوصيف لا ينحصر في دعوة للدعم المعنوي، بل يتجاوز ذلك إلى فرض التزام عقدي عام يشمل جميع أبناء الأمة الإسلامية، بغض النظر عن سياقاتهم الوطنية أو القانونية.
الميثاق لا يتعامل مع غزة كمجرد منطقة جغرافية محاصرة أو ساحة نزاع سياسي، بل يعيد توصيفها على أنها "أرض جهاد ورباط"، ويُسبغ على سكانها صفة "المرابطين" الذين ينوبون عن الأمة جمعاء في واجب الجهاد. وبهذا، فإن الميثاق يُضفي بعدًا رمزيًا وعقائديًا على المعركة، ويجعل من كل مواجهة عسكرية تخوضها فصائل المقاومة "حلقة من حلقات الفتح الإسلامي" لا تحتمل التأخير أو التفاوض. هذه المقاربة تؤسس لصياغة دينية محضة للنزاع، تقطع الطريق على أي مقاربة دبلوماسية أو سياسية يمكن أن تُطرح على المستوى الإقليمي أو الدولي.
الأخطر في مضمون هذا الميثاق أنه يوسع رقعة التعبئة لتشمل كل فئات المجتمع الإسلامي، حيث لم يقتصر على تحشيد العلماء والدعاة، بل وجّه نداءً مباشرًا إلى الإعلاميين، والاقتصاديين، والمعلمين، بل وحتى الآباء لتنشئة أبنائهم على "قيم الجهاد والتضحية والفداء". بهذا الشكل، يتحول الميثاق إلى أداة منهجية لعسكرة المجتمعات الإسلامية نفسيًا وفكريًا، وتكريس ثقافة العنف المقدس باعتبارها جزءًا من الهوية الدينية التي يجب ترسيخها منذ الطفولة.
هذا الطابع التعبوي الشامل يحوّل "القضية الفلسطينية" من كونها صراعًا سياسيًا معقّدًا إلى معركة عقائدية مفتوحة لا تعترف بالحدود ولا بالسيادة الوطنية، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والعالمي، ويمنح الجماعات المتطرفة مشروعية شرعية جديدة لتجنيد الأفراد وتنفيذ أعمال عنف تحت شعار "نصرة الأقصى". ففي ظل هذه الصياغة، تُمحى الفوارق بين العدو السياسي والعدو العقائدي، ويصبح أي موقف محايد أو مخالف بمثابة اصطفاف مع "قوى الكفر والاحتلال".
عسكرة المجتمع تحت ستار الواجب الشرعي
يتبنّى "ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى" رؤية تنسف الفاصل التقليدي بين الدولة والدين، إذ يُخضع جميع المسلمين، أفرادًا وجماعات، حكومات وشعوبًا، إلى منظومة من "الواجبات الشرعية" غير المرتبطة بوضعهم القانوني أو السياسي. فالخطاب الصادر عن الميثاق لا يُفرّق بين مواطن يعيش في دولة ذات سيادة، وعالم دين، وحاكم، وصحفي، واقتصادي، بل يجعل الجميع خاضعين لأمر ديني واحد: نصرة غزة والمجاهدين بكل وسيلة ممكنة، بدءًا من الدعم المالي ووصولًا إلى المشاركة في القتال.
هذا الطرح يُنتج حالة من الفوضى في المرجعيات، حيث يُختزل دور الدولة ومؤسساتها السيادية في مجرد "أداة" لخدمة التصور العقائدي الذي يطرحه الميثاق. فبدل أن يُنظر إلى الحكومات كجهات مسؤولة عن رسم السياسات الخارجية بناء على مصالحها الوطنية، يُجرَّد القادة من صلاحياتهم، ويُحمَّلون مسؤولية "شرعية" أمام الله عن كل قطرة دم تسيل في فلسطين، بل ويُتهمون ضمناً بالخيانة إذا لم يلتزموا بما تمليه هذه الفتاوى الجماعية.
النتيجة المباشرة لهذا الخطاب هي خلق مناخ تعبوي يفتح الباب على مصراعيه لتأليب الشعوب ضد أنظمتها تحت راية "الواجب الشرعي"، وهي معادلة خطيرة تعيد إلى الأذهان ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن، حين تحوّل الخطاب الديني العابر للحدود إلى أداة لتفكيك الدول، وتشريع التمرد على السلطة، وتبرير حمل السلاح خارج نطاق الدولة. فكل تخلّف عن "نصرة غزة" وفق الميثاق يُقابل باتهام بالخيانة أو التقصير الديني، ما يفرغ الدولة الوطنية من شرعيتها السياسية والدستورية.
الأكثر خطورة هو أن هذا الخطاب لا يقدم آليات تنظيمية ولا أطرًا واضحة لتطبيق هذا "الواجب الشرعي"، بل يترك الباب مفتوحًا أمام كل من يعتقد أنه "منصرٌ للمظلومين" لأن يتحرك بشكل منفرد أو جماعي، داخل دولته أو خارجها. وهنا تُصبح فكرة "نصرة غزة" غطاء دينيًا صالحًا لتبرير التحاق الشباب بجماعات متطرفة، أو للقيام بأعمال عنف، أو حتى للتمرد على الجيوش النظامية، تحت شعار "الجهاد" و"إعلاء راية الإسلام". وهكذا يتحول الميثاق من بيان ديني إلى مشروع صدام مفتوح بين الأمة ودولها، وبين التدين والسياسة، وبين الشرعية والقانون.
التهديد الصريح للنظام الدولي والإقليمي
يمثّل "ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى" تحدّيًا مباشرًا للنظام الدولي القائم، حيث يرفض بشكل صريح أي مشروعية للقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية بشأن القضية الفلسطينية، ويصفها بأنها "باطلة شرعًا" وغير ملزمة. ولا يكتفي الميثاق بهذا الرفض، بل يدعو إلى تجاوزه ميدانيًا عبر "فتح ميادين الجهاد في كل مكان"، في دعوة ضمنية لنقل الصراع الفلسطيني إلى فضاء عالمي واسع، بعيدًا عن حدود الجغرافيا السياسية والاعتبارات القانونية.
الأخطر أن الميثاق يهاجم سياسات الدول ذات السيادة بشكل مباشر، ويجرّم – دينيًا – كل اتفاق تطبيع مع إسرائيل، حتى وإن جاء ضمن إطار مصالح وطنية أو تسويات إقليمية معترف بها دوليًا. إذ يصف الميثاق هذا النوع من الاتفاقات بأنه "خيانة لله ورسوله"، ويوجب الرد عليه "شرعًا"، وهو توصيف بالغ الخطورة لأنه يشرعن الصدام بين الشعوب وحكوماتها، ويفتح الباب أمام استخدام العنف ضد الأنظمة السياسية التي اختارت السلام أو المسار التفاوضي، سواء في الخليج أو شمال أفريقيا أو غيرها.
هذا الخطاب لا يهدد فقط السلم الداخلي للدول الموقعة على اتفاقات سلام، بل يضرب جوهر القانون الدولي الذي يقوم على احترام السيادة الوطنية وحرية الدول في تقرير سياساتها الخارجية. فمن خلال نزع الشرعية الدينية عن أي قرار سياسي مخالف للميثاق، يصبح القانون الدولي مجرد "بدعة مرفوضة"، ويُستبدل بفتاوى عابرة للحدود، تصوغ العالم بمعايير عقدية غير قابلة للنقاش، وهو ما يقوض منظومة العلاقات الدولية المعاصرة ويعيد إنتاج منطق "الولاء والبراء" القديم لكن على مستوى جيوسياسي.
هذه النزعة تفتح المجال أمام الحركات العابرة للحدود لتبرير تدخلها في الشؤون الداخلية للدول، تحت ذريعة "نصرة الأمة" أو "الدفاع عن القدس"، حتى لو جاء هذا التدخل في شكل تمويل جماعات مسلحة، أو إرسال مقاتلين أجانب، أو التحريض الإعلامي والدعوي ضد حكومات بعينها. وبهذا المعنى، يتحوّل الميثاق إلى أداة تدمير بطيء للنظامين الإقليمي والدولي، إذ يضع كل من يختلف مع فتاويه في خانة "الخيانة"، ويعطي المبرر الديني الكامل للتدخل في شؤون الدول، بل وتهديد أمنها واستقرارها باسم "الشرعية الإسلامية".
فخ المظلومية 
يتبنى "ميثاق علماء الأمة" خطابًا مشحونًا بالعاطفة والمظلومية، يعبّر عن وجدان غاضب أكثر من كونه يطرح رؤية عقلانية لإدارة الصراع. ففي كل سطر تقريبًا، تكرّس مفردات مثل "الخيانة"، "العمالة"، "الإبادة الجماعية"، "التخاذل"، و"السكوت عن الدم"، وكأنها لائحة اتهام مفتوحة تطال كل من لا يشارك في المعركة أو يتبنى خطابًا مختلفًا. هذا النوع من اللغة العاطفية لا يهدف إلى فهم الواقع أو تفكيكه، بل إلى خلق حالة وجدانية تحكمها ثنائية جامدة: "مع المجاهدين أو ضدهم"، "مع الأمة أو مع الكفار"، ما يلغي أي مساحة للنقاش أو التعدد في الرؤى.
في ظل هذا الخطاب، لا مكان للحلول السياسية أو المبادرات الدبلوماسية أو حتى جهود الوساطة، فالميثاق لا يقدّم أي خريطة طريق للخروج من الأزمة، بل يرسّخ فقط ثقافة الانفعال والردود العنيفة باعتبارها الطريق الشرعي الوحيد. كل من يدعو إلى التهدئة أو المفاوضات أو التسويات السياسية، يُرمى تلقائيًا في معسكر "الخونة" أو "المثبطين"، ما يفرغ أي عمل إصلاحي أو إنساني من محتواه، ويعيد إنتاج منطق الجهاد الدائم بوصفه حالة لا تتوقف.
الأخطر في هذا السياق أن القضية الفلسطينية، التي يفترض أن تكون قضية تحرر وكرامة وعدالة، تتحول في هذا الميثاق إلى أداة داخل ماكينة الغضب الجهادي العابر للحدود. فبدلًا من البحث عن حلول واقعية تحفظ الأرواح وتراكم المكاسب، يُدفع الناس نحو معارك مفتوحة لا أفق لها، حيث لا مشروع سياسي واضح ولا تصور عملي للمستقبل، بل فقط "تضحيات مطلوبة" و"دماء مرغوبة" لتعزيز الشعور الجماعي بالبطولة والصمود. هذا التحول يجعل من القضية منصة دائمة لتفريغ الغضب وتجنيد الغاضبين، لا مشروعًا للتحرر الفعلي.
كما أن هذا النهج يُفضي في النهاية إلى اختطاف القضية الفلسطينية من أهلها لصالح الجماعات التي ترى في الجهاد وسيلة للبقاء أو التمدد. وبهذا، يُستبدل التحرير الحقيقي باستثمار مستمر في دماء الشهداء، ويُغلق الباب أمام المشاريع الوطنية أو الإنسانية التي كان يمكن أن تقدم بديلاً ناضجًا. ومن خلال ذلك، تتوارى فلسطين كقضية عادلة لتتحوّل إلى رمز يُستدعى كلما احتاجت الجماعات المتطرفة إلى ضخ الغضب في عروق خطابها، لتستمر في دورتها الجهادية المغلقة.
تهديدات عابرة للحدود
واحدة من أخطر الإشارات التي يحملها "ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى" تتمثل في طبيعته العابرة للحدود، إذ لم يقتصر التوقيع عليه على علماء من دول عربية أو إسلامية، بل شمل شخصيات ومؤسسات تنشط في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، ومناطق الجاليات المسلمة حول العالم. هذا الانتشار الواسع يعكس وجود شبكة دعوية وتنظيمية دينية تتخطى الأنظمة السياسية والهياكل القومية، وتعمل وفق مرجعية شرعية جماعية عابرة للدول، وهو ما يضرب في الصميم مفهوم الدولة الحديثة والمواطنة.
الميثاق، بهذه الشبكة الواسعة من الموقعين عليه، لا يمثل مجرد بيان رأي، بل يمكن أن يُستخدم بوصفه وثيقة مرجعية تُبرر التجنيد والدعم اللوجستي أو الدعوي لأي نشاط مسلح يتم تحت مظلة "نصرة الأقصى"، حتى لو وقع خارج فلسطين تمامًا. فقد يستند إليه دعاة أو نشطاء في الغرب لتبرير جمع التبرعات أو التجنيد الدعوي أو حتى دفع الشباب للانخراط في صراعات مسلحة، بزعم أن ذلك "فرض شرعي عام" على المسلمين أينما وُجدوا، وليس مقصورًا على الفلسطينيين أو دول الطوق. هذا البُعد يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الداخلي في الدول الأوروبية والغربية التي تعاني أصلًا من حساسيات شديدة تجاه ملف التطرف الديني، خاصة في ظل التوترات المرتبطة بالهجرة والاندماج. إذ يمكن أن يتحوّل الميثاق إلى مرجعية موازية للقانون، يستند إليها شبان مسلمون يعيشون في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا للتمرد على قوانين بلدانهم، بزعم أن "الشرع" يعلو على "القانون الوضعي"، وهو ما يعزز خطاب القطيعة مع الدولة، ويفتح باب المواجهة تحت عناوين دينية.
وهكذا، يُعاد إنتاج نموذج "الأمة المقاتلة"، حيث لا يُنظر إلى المسلم في الغرب كجزء من نسيج وطني واجتماعي، بل كجندي محتمل في معركة لا تنتهي، مطلوب منه نصرة "إخوانه" في كل مكان، حتى لو تعارض ذلك مع قوانين بلده أو تعاقده المدني. في هذا السياق، يتجاوز الميثاق دوره التعبوي داخل المنطقة العربية، ليُصبح مصدرًا لتهديدات أمنية فعلية في أوروبا وسائر دول العالم، خاصة في بيئات متوترة أصلاً بفعل الاستقطاب الديني والسياسي، ما يجعل منه وثيقة لا تُغذي فقط العنف، بل تصدّره كذلك.
من الميثاق إلى المنصة الجهادية الجديدة
لم يعد "ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى" مجرد بيان تعبوي أو وثيقة دينية تواكب ظرفًا استثنائيًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل تجاوز بطبيعته ومضامينه وتوقيعاته حدود "الفتوى الجماعية" ليؤسس لمنصة أيديولوجية جديدة ذات طابع عابر للحدود، تُعيد تشكيل الوعي الديني والسياسي لفئات واسعة من المسلمين. هذه المنصة لا تستهدف فقط دعم المقاومة في غزة، بل تُعيد صياغة مفهوم الانتماء الإسلامي من منظور عقائدي قتالي، يُحمِّل الفرد مسؤولية مباشرة في صراع مركّب، بعيدًا عن سياقات الدولة والقانون والمؤسسات الوطنية.
الميثاق، بما يتضمنه من دعوات صريحة للجهاد الفردي والجماعي، وإعادة تعريف "واجبات الأمة"، ورفض المؤسسات الدولية، وتجريم الحياد أو التسويات السياسية، لا يُنتج فقط حالة دينية تعبويّة، بل يُشكّل منصة لتغذية المشروع الجهادي العالمي بغطاء "فلسطيني"، حيث تُختزل القضية الفلسطينية – بكل تعقيداتها وتاريخها السياسي – في سردية عقائدية مغلقة لا تقبل الحوار أو التفاوض، بل تَعتبر أي مسار سياسي خارج الجهاد ضربًا من الخيانة أو التخاذل. وبهذا، تتحول غزة إلى "ساحة تصدير للشرعية القتالية"، بدل أن تكون مساحة للبحث عن العدالة والحلول الإنسانية.
كما أن طبيعة الموقعين على الميثاق، وانتشارهم الجغرافي، وتنوع منابرهم الإعلامية والتعليمية، تتيح للوثيقة أن تُستخدم كمرجع تعبوي مرن، يُفعَّل في أي وقت، في أي مكان، ضد أي دولة أو نظام يخالف هذه الرؤية المؤدلجة. إنه استنساخ واضح لتجارب سابقة، استخدم فيها الدين لزعزعة استقرار الدول وتفكيك المجتمعات تحت شعارات شبيهة: "نصرة المسلمين"، "إقامة العدل"، "الرد على الخيانة"، وهي الشعارات التي لطالما مهدت لموجات تطرف دمرت بلدانًا مثل العراق وسوريا وليبيا. إن ما يُسجَّل ضد الميثاق في النهاية، أنه لا يخدم القضية الفلسطينية بقدر ما يعيد تفعيل أدوات الفوضى الدينية والاقتتال باسم الدين، ويزرع في وعي الأجيال مفاهيم الصدام المطلق، بدلًا من مناهج الإصلاح والنقد والبناء. إنه يكرّس منطق "الجهاد العالمي" في نسخة محدثة، ترفع راية الأقصى هذه المرة، لكنها محملة بكل ترسانة الإقصاء والتكفير والتخوين والتهديد. وبدل أن يُقدِّم بديلاً حضاريًا أو سياسيًا للانتصار لفلسطين، يختار إعادة الأمة إلى منطق الصدام، لا إلى منطق الحل.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أمين حزب الريادة بالقليوبية: السيسي ينطق بلسان كل المصريين في دفاعه عن فلسطين
التالى هل يسير علي خطي رونالدو جيوكيريس نجوم تألقو في البريميرليج من الدوري البرتغالي؟