في حضرة الكتابة المبدعة لعالية ممدوح، ثمة أصوات لا تصرخ، بل تهمس من عمق الجرح. إنها نبرة الكاتبة العراقية التي لا تكتب عن المنفى، بل تكتبه. ليست كتابة عادية، بل حروف تُقلق السرد، وتُربك اللغة، وتُشعر القارئ بأنه يقف على حافة هاوية لا يرى قاعها، لكنه يسمع ارتجافاتها بوضوح ودهشة.
تميّزت الروائية عالية ممدوح بكتابة لا تهرب من الجسد، ولا تخجل من هشاشته، بل تجعله مرآةً للهوية، وساحة يتقاطع فيها السياسي بالحميمي، والخاص بالعام. من روايتها الأولى حبّات النفتالين إلى روايتها الأحدث والأكثر نضجًا التانكي، تتشكل ملامح عالمها الروائي؛ عالم لا يكفّ عن طرح الأسئلة، ولا يتوقف عن الحفر في الذاكرة والجسد والمنفى.
في هذا المقال، نقترب من هذا العالم الكثيف عبر رواية الأجنبية. ورغم أن التانكي حجزت مكانًا في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) قبل خمسة أعوام، فإن الأجنبية تكشف عن مستوى آخر من النضج الفني؛ رواية لا تُقرأ بقدر ما تُعاش. حروفها قلقة ومتوتّرة، تفيض بخوفٍ شفاف، وسخرية مريرة، ولغة تفتح جراحًا لا تندمل، كأنها لا تُكتب بالحبر، بل بما تبقّى من ذاكرة مرتجفة، ومنفى لا يهدأ.
في الأجنبية، لا تبحث الكاتبة عن قصة تُروى، بل عن لحظة تُعاش بكل قلقها وأسئلتها؛ عن جسد يسير في شوارع باريس، لكنه مشدود إلى بغداد بخيط لا يُرى.
إنها سيرة ذاتية مقنّعة، أو اعتراف على هيئة رواية، تتداخل فيها العلاقات الحميمة بالوقائع السياسية. يغدو الحبيب الفرنسي امتدادًا للسلطة، وتتحوّل القنصلية إلى فخّ محكم يستدعي الخوف من بين ضلوعٍ ظنّت أنها نجت.
هي رواية امرأة، لكنها – في العمق – رواية وطن خرج من اللغة، وبقي يسكن الجسد، يلاحقك في البريد، في حكايات العشّاق، وفي تفاصيل الحياة اليومية.
ليست رواية عن الغربة، بل عن ما بعد الغربة… حين لا تعود قادرًا على العودة، ولا على البقاء. حين تصير غريبًا حتى عن نفسك.
تبدأ الرواية بجملة مشحونة بالتوتر: "اتصلت بي القنصلية العراقية بباريس تدعوني لزيارتها لأمر عاجل.. أثق كثيرًا بالأمور العاجلة، فهي تملك حبكة ألغازها، وبالتالي فإن أذيتها لا تنتهي عاجلًا".
ومع خطواتها المترددة نحو مقر القنصلية، تمر البطلة عبر أجهزة كاشفة لا ترصد إلا ما هو مادي، لكنها تعجز عن رصد الذبذبة الوحيدة المتخفّية في الجسد: ذبذبة الخوف.
هناك، يُسلّم إليها ظرف أسمر يحمل استدعاءً قانونيًّا بطلب من حبيبها السابق، يُلزمها بالحضور لأمر شخصيّ بالغ الغرابة. لحظة عبثية تختصر هشاشة المنفى، وتكشف كيف تُلاحقها السلطة حتى عبر علاقاتها القديمة. وعندما تقرأ مضمونه، تطلق ضحكة عصبية وتقول: "استدعائي إلى بيت الطاعة؟ أحقًا لا يزال هذا الإجراء معمولًا به عندنا؟!"
هذا المشهد وحده – بتصعيده النفسي، واختناقه السردي، وسخريته اللاذعة – يختزل الرواية بأكملها. إذ لا تُكتب عن واقعة، بل عن حالة وجودية: كيف يتحول المنفى إلى مطاردة، والحبيب إلى سلطة، والقنصلية إلى كمين، والمظروف الرسمي إلى مرآة متصدعة للهوية.
بلغة مشبعة بالتهكم والأسى، تطرح الكاتبة سؤالًا لا يُنسى:
هل تنفصل عن السلطة بمجرد أن تغادر المكان؟ أم تُلاحقك في الحب، والزواج، والذاكرة؟
وفي مفارقة لافتة، يصبح الرجل الفرنسي – حبيبها السابق – بوابة لاستدعاء رسمي من الدولة التي فرّت منها، في حبكة روائية تتقن الكاتبة صياغتها بخفة وسخرية موجعة.
هذه الرواية ليست عن امرأة تعيش في المنفى، بل عن امرأة تبحث عن مبرر للبقاء. لا تسعى إلى الحب، بل تفتش عن حقها في الوجود.
ووسط هذا كله، يبرز سؤال مراوغ ومؤلم: هل ننجو من ماضينا، أم نُصاب به إلى الأبد؟ وهل يمكن لرسالة رسمية أن تحوّل حياة كاملة إلى مسرح للذعر؟
في النهاية، أقول: هذه ليست رواية تُقرأ، بل تُستشعر. كل صفحة فيها رواية مصغّرة. كانت فيها السفارات أماكن للرعب، والرسائل الرسمية أدوات قمع ناعمة، واللقاء العابر مواجهة مع الذات.
وهكذا تمسك الكاتبة بقارئها من أول سطر، لا لتروي له قصة، بل لتُدخله جلد امرأة "أجنبية".. لا عن وطنها فقط، بل عن العالم بأسره.
نلتقي الأسبوع القادم بإذن الله، مع قراءة جديدة وكتاب مختلف.