ترحل الأجساد وتبقى الكلمات، وحدها الكلمات شاهدة على أصحابها، تحرس ذاكرتهم من النسيان وتُبقيهم بيننا ما دام الحبر ينبض والقلوب تصغي، اليوم أكتب وفي قلبي وجع الفقد، بعد أن ودّع الوسط الثقافي والسياسى والصحفي المصري واحدًا من أنقى الأقلام وأكثرها صدقًا، سليمان شفيق. ذلك الصحفي والروائي والمفكر الذي لم يكن مجرد صاحب مقالات أو روايات، بل كان ضميرًا حيًا يمشي على الأرض، وموقفًا يكتب نفسه بالحبر والعرق والألم.
حروف مضيئة
رحل سليمان شفيق تاركًا وراءه ميراثًا من الحروف المضيئة والمواقف الشجاعة، التي ستظل جزءًا من الذاكرة الوطنية. كان ابنًا بارًا لمصر التي أحبها على طريقته، لم يرفع الشعارات الجوفاء، ولم يتاجر بالوطنية، بل جعل من قلمه سيفًا للدفاع عن الإنسان، ومن مقالاته جدرانًا تقي الضعفاء من الريح، ومن كتبه مرايا تكشف المستور وتضيء العتمة.
وُلد سليمان في المنيا عام 1953، وفي شوارعها الطيبة تفتحت عيناه على مزيج القهر والأمل، فحمل منذ الصغر همّ العدالة الاجتماعية، مؤمنًا أن خلاص الفرد لا ينفصل عن خلاص الجماعة، مولعًا بالمعرفة، متعطشًا للفكر، متنقلاً بين قاعات الجامعات في موسكو ومعاهد السينما وأكاديميات الصحافة، ينهل من كل علم ما يعينه على قراءة الإنسان المصري في تعقيداته وتناقضاته، لم يكن يطلب الشهرة ولا المناصب، بل كان يبحث عن المعنى، عن سؤال الهوية، عن الحقيقة التي لا يطالها غبار.
"سولم" كما كنا نحب أن نناديه لم يكن مجرد صحفي يسرد الأخبار، بل غواصًا في أعماق المجتمع، يغوص حتى الأعماق ليخرج باللؤلؤة التي تَخفى على العيون. يقف عند المسكوت عنه، ويمد يده إلى الجراح التي يخشى الجميع كشفها، يكتب عنها بصدق نادر لا يعرف المساومة. وفي روايته «ثلاثة وجوه»، كما في مقالاته ودراساته، كان الإنسان هو البطل الأول في ضعفه وقوته، في غربته وحلمه، في جراحه الصغيرة وانتصاراته البسيطة.
منحاز للحق
لم يعرف قلمه أنصاف الحلول، دائم الانحياز للحق، لا يتلعثم في مواجهة الباطل، ولا يقبل أنصاف المواقف، ظل طوال حياته مدافعًا عن الدولة المدنية، رافضًا كل تقسيم يطال النسيج المصري الواحد، يؤمن أن كلمة "مصري" تكفي لوصفه، وأن كل ما عداها تقليصٌ لمعنى الهوية الجامعة، لم يقبل أن يُختصر في "كاتب قبطي" أو "مفكر يساري"، لأنه يرى نفسه أوسع من كل التصنيفات، إنسانًا قبل كل شيء، ومصريًا قبل كل انتماء.
عاش مُحبًّا للفكر، عاشقًا للتنوير، متيمًا بالحرية، مؤمنًا أن الهوية المصرية قادرة على أن تحتوي الجميع مهما اختلفت دياناتهم أو مذاهبهم أو أفكارهم، يردد دائمًا أن الوطن لا يُبنى بالتجزئة، بل بالتكاتف، وأن الظلم إذا وقع على فئة فلن يسلم منه أحد.
برحيل شفيق تفقد الصحافة المصرية واحدًا من أنقى الأصوات وأكثرها شجاعة، فقد كان شاهداً على زمن بأكمله، يلتقط تناقضاته ويحلل تحوّلاته ويصرخ في وجه الظلم أينما كان، لم يترك قضية تخص الفلاحين أو العمال أو المهمشين إلا ووقف عندها، مدافعًا عن الذين لا يملكون صوتًا، حاضرًا أيضًا في الدفاع عن القضايا القومية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي رآها جزءًا من كرامة المصريين والعرب.
دفء الإنسانية
لم يعرف المهادنة، لم يتقن المواربة، ظل يكتب مكشوف الصدر، مؤمنًا أن المثقف الحقيقي لا يحتمي إلا بشعبه، وأن الكلمة لا معنى لها إن لم تُقل في وقتها، وإن لم تخرج جريئة في وجه الجبروت.
في حياته الخاصة إنسانًا رقيقًا رغم صلابته الفكرية، عطوفًا رغم حدّة قلمه، صديقًا يشارك الآخرين أحزانهم قبل أفراحهم، ويحتمل عنهم ما يقدر عليه، في جلساته دافئًا محبًا كريمًا في مشاعره، وفي معاركه صلبًا لا ينكسر، جمع بين دفء الإنسانية وقوة الموقف، وهي معادلة نادرة في زمن تاهت فيه البوصلة وكثرت فيه الأقلام المرتعشة.
رحيل سليمان شفيق ليس غيابًا لجسد بقدر ما هو خسارة لذاكرة كاملة من النضال بالكلمة، إن المثقف الحقيقي لا يموت، بل يترك أثرًا يتجاوز حياته، يفيض في كل مقال، وكل فكرة، وكل قارئ لمس قلبه. سيبقى بيننا كشاهد على أن الكلمة موقف، وأن الشجاعة أثمن من السلامة، وأن الطريق إلى الحرية محفوف بالألم، لكنه الطريق الوحيد الجدير بالمسير.
سلامٌ إلى روحه التي مضت، وسلام على قلمه الذي سيبقى بيننا، يذكّرنا أن الأوطان لا تُبنى بالصمت، بل بالكلمة الحرة، وأن العدالة ليست منحة من أحد، بل حق يولد مع الإنسان ولا يسقط إلا إذا صمت الجميع. لقد رحل الجسد، لكن الحبر باقٍ، والذكرى باقية، والإنسانية التي عاش من أجلها ستظل أكبر من الموت وأبقى من الغياب.