من الصعب أن نفصل ما يجري في غزة من حرب إبادة وحصار وتجويع عن جدليات فكرية قديمة تناولت العلاقة بين الإنسان والموارد، لعل أبرزها ما طرحه المفكر الإنجليزي توماس مالتس في أواخر القرن الثامن عشر.
فقد رأى مالتس أن البشرية محكومة بمعادلة قاسية: النمو السكاني يتزايد وفق متوالية هندسية، بينما الموارد الغذائية والاقتصادية لا تزيد إلا وفق متوالية حسابية.. والنتيجة، وفق منطقه، أن البشرية ستواجه دومًا فجوة مروعة بين حاجات الإنسان وقدرة الطبيعة على تلبيتها، الأمر الذي يقود حتمًا إلى مجاعات وصراعات وحروب، تعيد "التوازن" عبر تقليص عدد السكان.
مالتس لم يكتف بالتشخيص، بل قدم ما سماه "الضوابط"، وهي نوعان: ضوابط وقائية مثل تأخير الزواج والامتناع عن الإنجاب المفرط، وضوابط مدمرة مثل الأوبئة والحروب والمجاعات التي اعتبرها أدوات طبيعية للتخلص من فائض السكان.. هذه الرؤية التي قد تبدو اليوم قاسية أو لا إنسانية، كانت في زمانها انعكاسًا لمخاوف أوروبا من الانفجار السكاني، لكنها لاحقًا أثرت في كثير من السياسات الاستعمارية التي رأت في "إدارة السكان" مدخلًا للسيطرة والهيمنة.
عندما ننظر إلى غزة من هذه الزاوية، ندرك أن الاحتلال الإسرائيلي يمارس نسخة استعمارية متقدمة من هذا المنطق المالتسي، فهنا لا تتدخل الطبيعة لتفرض المجاعة أو الكارثة، بل تقوم إسرائيل بصناعتها بوعي كامل، إنها لا تنتظر "ضوابط مدمرة" عفوية، بل تخلقها عمدًا من خلال حصار غذائي ودوائي شامل، ومنع وصول الماء والكهرباء، وتدمير المستشفيات والمدارس، وشن غارات عشوائية تستهدف المدنيين، بما يحول الحياة اليومية إلى صراع بقاء، ويتجاوز الهدف معاقبة حماس إلى محاولة إعادة تشكيل البنية الديموغرافية لغزة، عبر دفع السكان إلى النزوح الجماعي أو الموت البطيء.
بهذا المعنى، تصبح غزة مختبرًا لسياسات "الهندسة السكانية القسرية"، حيث يستخدم الاحتلال أدوات الحرب والتجويع والاغتيالات لإعادة صياغة التركيبة البشرية بما يخدم مشروعه الاستيطاني، هنا لا نتحدث عن مواجهة عسكرية ظرفية، بل عن مشروع طويل المدى يتجاوز حدود غزة ليشكل نموذجا يمكن تسويقه لاحقا كآلية ناجحة لـ"إدارة السكان المتمردين".
خطاب بنيامين نتنياهو الأخير جاء ليعزز هذه القراءة، فهو لم يكتف بتهديد الفلسطينيين، بل وسع دائرة التهديد لتشمل قطر ودولًا أخرى، مستدعيا تجربة الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر واغتيال أسامة بن لادن في باكستان، أراد نتنياهو أن يقول: كما مارست أمريكا حقها في مطاردة "الإرهابيين" عبر الحدود، يحق لنا أن نفعل الشيء نفسه مع قادة حماس، لكنه يتجاهل الفارق الجوهري: ما حدث في فلسطين ليس عملًا إرهابيًا عابرًا للحدود، بل فعل مقاومة مسلحة ضد احتلال ممتد منذ عقود، وهو ما يقر به القانون الدولي صراحة باعتباره حقا للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
الأخطر في الخطاب أنه يحاول أن يضع الاحتلال في موقع "القاضي والجلاد" في آن واحد، مانحًا لنفسه سلطة تقرير من يعيش ومن يمحى، ومن يُسلم للمحاكم ومن يغتال في أي مكان، إنه يكرر منطق مالتس لكن بشكل أكثر فجاجة: إذا لم تسلموا من نريد، فسوف نصنع نحن "الكارثة المدمرة" التي تعيد صياغة المعادلة، إنه بذلك يسعى إلى شرعنة الاغتيالات العابرة للحدود، وتجريد الدول من سيادتها، وتحويل الاحتلال إلى "قوة طبيعية" تفرض إرادتها على الجميع.
القمة العربية الإسلامية في الدوحة تجد نفسها أمام هذا المشهد المركب، القضية لم تعد مجرد عدوان إسرائيلي جديد، بل تحولت إلى مشروع وجودي يرمي إلى اقتلاع شعب كامل عبر وسائل تشبه "الضوابط المدمرة" لمالتس، لكنها مصنوعة بقرار سياسي–عسكري مدعوم من أمريكا، وهذا ما يفرض على القمة أن تتجاوز دائرة الإدانة الإنشائية إلى الفعل العملي، سواء عبر التحرك القانوني أمام المحاكم الدولية لتجريم الحصار والتجويع كجرائم ضد الإنسانية، أو عبر بناء جبهة اقتصادية–سياسية تفرض تكاليف باهظة على استمرار الاحتلال.
ما جرى من استهداف قادة حماس على أرض قطر لا يمكن النظر إليه كحادث منفصل، بل هو انتهاك فج لسيادة دولة عربية، وضرب مباشر في صميم مبدأ عدم المساس بالسيادة الوطنية الذي يعد أساس العلاقات الدولية، الأخطر أن مثل هذا الفعل يفتح الباب لشرعنة الاعتداء على أي دولة عربية أخرى تحت ذريعة "الأمن الإسرائيلي"، هذه الجريمة تحمل رسالة مزدوجة: انتهاك سيادة دولة عربية، وتهديد للأمن القومي العربي ككل، لأنها تعني أن العواصم العربية لم تعد بمأمن من الاستباحة، هنا يفرض السؤال نفسه: إلى متى يبقى "الناتو العربي"، أو معاهدة الدفاع العربي المشترك الموقعة منذ عام 1950، حبرًا على ورق؟ إذا لم يكن استهداف قادة على أرض عربية، وانتهاك سيادة دولة عضو في الجامعة العربية، سببًا كافيًا لتفعيلها، فمتى إذن؟.. ولا يعنى تفعيل معاهدة الدفاع العربى المشترك أننا ندعو لخوض حرب مع إسرائيل ولكنها ستكون عامل ردع بلا شك للنهج الإسرائيلى.
إن الشعوب العربية والإسلامية تريد رؤية خطوات ملموسة تعيد الاعتبار لفكرة العمل الجماعي، فإما أن تكون قمة الدوحة نقطة انطلاق نحو مواجهة مشروع "الهندسة السكانية" الإسرائيلي وفضحه عالميًا باعتباره سياسة إبادة منهجية، أو أن تقع في فخ البيانات البروتوكولية.
بهذا المعنى، فإن غزة اليوم ليست فقط ساحة صراع، بل اختبار لمستقبل النظام الإقليمي برمته. وإذا لم يكسر المنطق المالتسي الجديد الذي يفرضه الاحتلال، فسوف نرى تكرار التجربة في أماكن أخرى، وبصيغ أشد قسوة ودموية.