حكومة نتنياهو تخلّت عن الدبلوماسية وتبنّت نهجًا يُركّز على القوة العسكرية
كانت الغارة الجوية الإسرائيلية فى ٩ سبتمبر على قيادة حماس فى الدوحة، قطر، والتى شملت محاولة اغتيال واضحة لكبير المفاوضين خليل الحية، أكثر من مجرد اغتيال مُستهدف.
لقد كانت إعلانًا استراتيجيًا. فبعد ما يقرب من عامين من الحرب الشاملة التى أعقبت هجمات ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، تخلّت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن الدبلوماسية، وتبنّت نهجًا يُركّز على القوة العسكرية أولًا للقضاء على حماس، حتى على حساب أرواح الرهائن، وتوتر التحالفات، وتراجع النفوذ الدبلوماسي.
بالنسبة لإسرائيل، قد يعكس الهجوم عزمها. أما بالنسبة لحلفائها وجيرانها، فيُمثل نقطة تحول قد تُعيد تشكيل الحسابات الجيوسياسية فى جميع أنحاء الشرق الأوسط. خروجٌ محفوفٌ بالمخاطر عن ضبط النفس السابق.
تاريخيًا، تعاملت إسرائيل مع الضربات فى الدول العربية الصديقة أو المحايدة بحذر. وقد جاءت العمليات السابقة بنتائج عكسية. ففى عام ١٩٩٧، أدت محاولة اغتيال فاشلة لزعيم حماس، خالد مشعل، فى الأردن إلى اعتقال عميلين للموساد، وأجبرت إسرائيل على إطلاق سراح سجناء بارزين من حماس.
وأثارت عملية اغتيال فى دبى عام ٢٠١٠، استهدفت القائد العسكرى محمود المبحوح، إدانةً دولية.
ولكن منذ ٧ أكتوبر، تغيرت استراتيجية إسرائيل جذريًا. فأشرف نتنياهو، الذى كان حذرًا سابقًا بشأن الهجمات الكبرى، على حملة عسكرية إقليمية واسعة:
حربٌ مطولة ومدمرة فى غزة (خلّفت أكثر من ٦٤ ألف قتيل فلسطيني).
ضرباتٌ فى لبنان ضد حزب الله.
غاراتٌ جويةٌ فى اليمن على أهدافٍ للحوثيين.
عملياتٌ فى سوريا وإيران، بما فى ذلك هجماتٌ على البنية التحتية النووية وقياداتٍ رئيسية.
يبدو أن ضربة الدوحة- التى يُقال إنها ناجمة عن مقتل ستة إسرائيليين فى هجومٍ إرهابيٍّ فى الضفة الغربية- منفصلةٌ عن هؤلاء الجناة. بل يُشير إلى أن إسرائيل لم تعد تُفرّق بين قيادة حماس فى غزة وخارجها.
الهدف العسكري.. تدمير حماس بالكامل
تُؤكّد هذه الضربة تحوّلًا أوسع فى أهداف الحرب الإسرائيلية. فما بدأ انتقامًا أصبح الآن حملة تفكيك لا هوادة فيها. لا تطالب قاعدة نتنياهو اليمينية الأساسية بأقل من إبادة حماس، والعمليات الدرامية مثل ضربة الدوحة تُشير إلى توافق سياسى وأيديولوجى مع هذا الهدف.
مع ذلك، يُرجّح أن يكون التأثير العسكرى محدودًا. فقد أصبحت قيادة حماس لا مركزية منذ زمن طويل، حيث يتخذ القادة داخل غزة معظم القرارات العملياتية. إن قتل القادة فى الخارج، على الرغم من قوته الرمزية، لن يُعيق قدرة الحركة على ساحة المعركة.
ضربة لمفاوضات الرهائن
لعلّ أكثر ما يُثير القلق هو تأثير الضربة على دبلوماسية الرهائن. لا تزال حماس تحتجز حوالى ٢٠ رهينة إسرائيليًا على قيد الحياة ورفات ٣٠ آخرين، بينهم أمريكيان. أى وقف محتمل لإطلاق النار كان مُعلقًا على المفاوضات.
رغم نجاة الحية، فإن قرار إسرائيل باستهدافه يبعث برسالة واضحة: انتهت المحادثات. وبهذا، يمكن القول إن الحكومة قوّضت نفوذها، مما يجعل استعادة الرهائن مستبعدة بشكل متزايد.
قبل الغارة، اعتقد بعض المحللين أن تصعيد العمليات البرية فى غزة كان يهدف إلى الضغط على حماس للدخول فى مفاوضات. لكن هجوم الدوحة كشف عكس ذلك: إسرائيل تتبع الآن استراتيجيةً تُعيق المحادثات بنشاط.
قطر فى مرمى النيران
التداعيات الدبلوماسية فورية وخطيرة. فالضربة فى الدوحة ليست مجرد عملية عسكرية، بل هى إهانة مباشرة لقطر، إحدى الدول القليلة فى المنطقة التى أبدت استعدادها لاستضافة قادة حماس والمشاركة فى جهود الوساطة المدعومة من الولايات المتحدة إلى جانب مصر.
حتى الآن، كانت قطر أساسيةً فى المفاوضات غير المباشرة والتمويل الإنسانى فى غزة. ومن المفارقات أن إسرائيل كانت تدعم سابقًا دور قطر فى تمويل القطاع لتجنب الانهيار وتهميش السلطة الفلسطينية.
لكن منذ ٧ أكتوبر، انقلبت هذه الاستراتيجية. أثار دعم قطر لغزة غضبًا من الحزبين فى إسرائيل، كما أثار استضافتها لحماس اتهاماتٍ برعاية الإرهاب، رغم مزاعم الدوحة بأنها استضافت قادة حماس بناءً على طلب الولايات المتحدة.
تعقيد الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة
أفادت التقارير أن إسرائيل أبلغت واشنطن بالهجوم مسبقًا. وقد أدى ذلك إلى تكهنات بأن الولايات المتحدة وافقت على الهجوم - أو على الأقل تسامحت معه - وهو تصورٌ يُعقّد علاقاتها فى الخليج.. قطر ليست مجرد وسيط؛ بل تستضيف أيضًا قاعدة جوية أمريكية ضخمة، حيوية للعمليات الأمريكية فى الشرق الأوسط. وأى تواطؤ أمريكى مُتصوَّر يُهدد التعاون الدبلوماسي، واستعادة الرهائن، والاستقرار الإقليمي.
حاولت كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، إبعاد الإدارة عن الضربة، مؤكدةً أن قطر "تخاطر بشجاعة للتوسط فى السلام" وأن الهجوم "لا يخدم أهداف إسرائيل أو أمريكا". ومع ذلك، قد يوحى الفشل فى ثنى إسرائيل بموافقة ضمنية - أو على الأقل بتراجع نفوذها.
تصعيد بلا نهاية؟
مع استمرار الحرب، لا تزال حماس الطرف المهيمن فى غزة - ليس بفضل الدعم الشعبي، بل لأن إسرائيل استبعدت تمكين أى بديل فلسطيني. لقد خلّفت جهود تهميش السلطة الفلسطينية فراغًا: فعندما تنسحب إسرائيل من المناطق، تعود حماس ببساطة.
إذن، من غير المرجح أن تُغيّر ضربة الدوحة هذه الديناميكية. بل إنها تُجسّد عقيدة جديدة: توسيع ساحة المعركة، واستبعاد المفاوضين، وقبول رد الفعل الإقليمى كثمنٍ للسعى وراء أهدافٍ مُتطرفة.
الرهانات الاستراتيجية للولايات المتحدة
بالنسبة لإدارة بايدن - أو إدارة ترامب المستقبلية - تُثير الضربة أسئلةً مُعقّدة:
هل يُمكن مواءمة أهداف حرب إسرائيل مع أولويات الولايات المتحدة؟
هل يتوافق الدعم المُستمر لإسرائيل مع أهداف استعادة الرهائن، والسلام الإقليمي، والتحالفات الاستراتيجية؟
أم أن الدعم غير المشروط يُمكّن من اتخاذ قرارات تُزيد من زعزعة استقرار المنطقة، وتُعيق الدبلوماسية، وتُقوّض مصداقية الولايات المتحدة؟
ضربة قطر ليست مجرد عنوان رئيسي. إنها نقطة تحوّل فى الحرب - وفى دور أمريكا فيها.
