أخبار عاجلة

منظمة التحرير بين الإعلام المصري وتدجين المقاومة

منظمة التحرير بين الإعلام المصري وتدجين المقاومة
منظمة التحرير بين الإعلام المصري وتدجين المقاومة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

منذ سنوات، وأنا أتابع تغطية الإعلام المصري للقضية الفلسطينية، أشعر بامتعاض حقيقي كلما وجدت المقاومة الفلسطينية تُختزل في حماس وحدها، وكأن التاريخ يبدأ وينتهي من غزة. يعد ذلك ظلمًا فادحًا ليس فقط لمنظمة التحرير الفلسطينية، بل لتاريخ كامل من النضال قدّم فيه الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء من مختلف الفصائل، وعلى رأسها حركة فتح وذراعها العسكري كتائب شهداء الأقصى، فكيف يتجاهل إعلامنا المصري تضحيات منظمة التحرير التي دفعت ثمنًا باهظًا عبر عقود طويلة؟.

ونعيد للأذهان معركة الكرامة عام 1968، حين هزمت فتح والجيش الأردني قوات الاحتلال في مواجهة مفتوحة وأعادت الثقة للعرب بعد هزيمة 67.

وفي بيروت عام 1982، صمدت منظمة التحرير 88 يومًا تحت الحصار الإسرائيلي، حتى أن شارون نفسه اعترف بأن إخراج المقاتلين لم يكن نصرًا عسكريًا خالصًا بل صفقة سياسية، ولا ننسى عمليات خطف الطائرات في السبعينيات التي أجبرت العالم على سماع صوت الفلسطينيين واعتراف الأمم المتحدة بحقوقهم. وكانت فى وقتها عملًا من أعمال البطولة يتماشى مع ظروف ذلك الزمان.

ولن ننسي أيضًا الانتفاضة الثانية 2000–2005، التي قامت بها كتائب شهداء الأقصى وحدها ونفذت مئات العمليات؛ أشهرها عملية مطعم "متسا" في حيفا 2002 وعملية تل أبيب التي أسقطت أكثر من 20 قتيلًا، ولكن تلك العمليات لم تكن تعطي ذرائع للكيان بإبادة الشعب حتى داخل الضفة الغربية اليوم، ورغم القبضة الأمنية الإسرائيلية والانقسام الداخلي، نجد مقاتلي فتح الآن في مخيم جنين ونابلس وطولكرم يقاتلون كتفًا بكتف مع سرايا القدس وكتائب القسام، يزرعون عبوات ناسفة محلية الصنع ويخوضون اشتباكات مسلحة تجعل الاحتلال يقتحم المخيمات بالدبابات والطائرات. لماذا لا يظهر هذا في شاشاتنا المصرية إلا بشكل باهت، بينما يتم التركيز على بيانات حماس فقط؟.

كان يجب أن يرسخ الإعلام في ذهن المصري أن فتح هي الأصل، وأنه بدونها ما كان ليكون هناك مقاومة بالمفهوم الحقيقي الذي جمع كل الشعب تحت مظلة وطنية واحدة. لكن بدلًا من ذلك، تم تحريف لفظ "المقاومة" ليصبح عنوانًا دينيًا ضيقًا، لا يشمل الجميع، ويستبعد كل من يرفض المشروع الإسلاموي أو يقف ضد أجندته. فإن الأسوأ أن الإعلام تجاهل تمامًا جرائم حماس ضد أبناء فتح من جلدتهم، ومن قتل واغتيالات وإلقاء من فوق أسطح المنازل في أحداث 2007، إلى حملات القمع الممنهج ضد كوادر فتح في غزة حتى اليوم.

 والأهم أن تكتيك العمليات لدى فتح كان محسوبًا بعناية، عبر استهداف عسكري وأمني يوجع الاحتلال، دون إعطاء ذرائع لعمليات إبادة جماعية أو قصف شامل للأحياء المدنية كما يحدث اليوم في غزة. فلم تكن هناك متاجرة بالدماء أو تصعيد مفتوح يُستدرج لردود انتقامية واسعة النطاق. وكانت قيادات فتح موجودة داخل فلسطين، تتحمل المسؤولية السياسية والشعبية أمام الناس، وتفاوض من موقع الفعل على الأرض، لا من وراء الحدود أو في عواصم آمنة، هذا التكامل بين العمل المقاوم ومسار التفاوض كان ما يميز منظمة التحرير، فقد كانت العمليات أداة ضغط سياسي لتحسين شروط التفاوض وانتزاع مكاسب، وليست غاية بذاتها. ولم يكن التفاوض استسلامًا، بل امتدادًا للمقاومة بوسائل أخرى، والهدف النهائي كان بناء كيان فلسطيني معترف به دوليًا.

أما اتفاق أوسلو – رغم كل الانتقادات – فقد منح الفلسطينيين أول سلطة على أرضهم وفتح الطريق لدولة قيد التشكل، وهو إنجاز سياسي لم يأتِ من فراغ بل كان نتيجة عقود من مقاومة منظمة. وفي المقابل، نجد أن حماس اختارت نموذج العمليات غير المتكافئة ذات الطابع الصدامي الواسع، والتي غالبًا ما أعطت الاحتلال ذريعة لتدمير البنية التحتية في غزة وإيقاع آلاف الضحايا من المدنيين، بينما تبقى القيادة محمية بعيدًا عن خط النار. هذا النمط حوّل المقاومة إلى حالة استنزاف بلا أفق سياسي، وأبقى غزة محاصرة ومعزولة إلي أن تحولت الي عبء ثقيل لا يمكن تجاوزه في المرحله المقبله.

والأخطر أن الشعب المصري اليوم لا يعرف شيئًا عن فتح ولا عن منظمة التحرير إلا ما يُقال من اتهامات جاهزة بأنها "سلطة أوسلو" أو "سلطة التنسيق الأمني". الإعلام ــ بوعي أو بدون وعي ــ لمّع الإسلام السياسي ممثلًا في فصيل واحد بشكل مبالغ فيه، لدرجة أن أي صوت يعارض مشروع حماس أو ينتقد فكر الإخوان يُتهم فورًا بالخيانة أو بالتواطؤ مع الاحتلال. هذه الثقافة أصابت وعي المصريين بالخلل، وجعلت من المقاومة مفهومًا أحاديّ البُعد، ومن النقد السياسي جريمة.

ولم يقم التعليم بواجبه أو تتبنى الدوله عمل ندوات تثقيفية أو أي دور إعلامي يذكر يتبني فكر المقاومة بمفهومه السليم، وقد كان هناك مقاتلون مسيحيون إلى جانب المقاتلين المسلمين في صفوف حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية منذ الستينيات، كثير منهم استشهد في معارك الثورة الفلسطينية (مثل معركة الكرامة وحصار بيروت) لا يعرفهم أحد ونحن اليوم أمس الحاجه لمواجهه التيار البروتستانتي الصهيوني باستنساخ هذه النماذج من المسيحيين الذين لم يكونوا مجرد متفرجين، بل ساهموا في التخطيط والتنفيذ لعمليات كبرى ضد الاحتلال. ووجودهم في الصفوف القيادية أرسل رسالة مفادها أن القضية الفلسطينية ليست قضية دينية بل قضية وطنية جامعة لكل مكونات الشعب الفلسطيني، هذه المشاركة قوّت شرعية منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي لكل الفلسطينيين، لا لحزب أو دين بعينه، كمثال شخصية "عدنان إلياس" مقاتل بيت لحم استشهد في صفوف الجبهة الشعبية، وكاملة العيسى ومي عارف من ناشطات الانتفاضة الأولى، ونايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الذي لعب دور الجوكر في المفاوضات المرحليه، ووديع حداد قائد الجناح العسكري للجبهة الشعبية وأحد أبرز مهندسي العمليات الخارجية، وجورج حبش أحد أبرز رموز المقاومة اليسارية وقائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ قاد عمليات نوعية مثل خطف الطائرات في السبعينيات التي أجبرت العالم على التعامل مع القضية الفلسطينية كمشروع وطني شامل وليس مجرد ملف أمني في يد إسرائيل بنفوذ إقليمي كريه. وشتان الفرق بين التكتيك المزدوج لمنظمة التحرير التي كانت تمارس كفاحًا مسلحًا محسوبًا يضغط على الاحتلال ويوازن مع مسار تفاوضي سياسي يعيد القضية إلى المحافل الدولية، والاثنان معًا كانا جزءًا من رؤية استراتيجية لا ترى المقاومة هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة لانتزاع الحقوق الوطنية، تبقي القيادة السياسية على الأرض وتشارك في العمل الشعبي، ما يعطي العملية بعدًا وطنيًا ويجنبها التحول إلى أداة لاستنزاف الشعب فقط، وهنا الفرق مع بعض الفصائل الأيديولوجية التي جعلت المفاوضات إن وُجدت تدور حول بقاءها كحركة وضمان استمرار سيطرتها على قطاع غزة أو على سلاحها، بدلًا من أن تكون القضية هي التحرير الوطني الشامل.

فإن اليوم التالي للحرب لا يجب أن يُدار بعقلية "البث المباشر للحدث الأمني" وكأن الاشتباك وحده قادر على تغيير المعادلة على الأرض. المطلوب هو توظيف إعلامي لإحياء مهام منظمة التحرير ولمّ الشمل الوطني، وإعادة بناء البيت الفلسطيني سياسيًا وشعبيًا. لأن المعادلة السياسية – مهما بدت ناقصة – تظل أفضل وأكثر واقعية من وهم المقاومة الأحادية الراديكالية التي تحصر نفسها في أفق ديني مغلق. أما اتفاق أوسلو، بكل ما عليه من ملاحظات، نجح على الأقل في انتزاع اعتراف دولي بمنظمة التحرير وخلق سلطة فلسطينية على الأرض، وهو ما لم تستطع حماس تحقيقه رغم سنوات تقديم نفسها كحركة المقاومة الوحيدة. والتحرير الحقيقي لا يحتاج إلى حركة أيديولوجية، بل إلى مشروع وطني جامع يضم الجميع، ويستثمر المقاومة المسلحة والسياسية والدبلوماسية بشكل متكامل، لا أن يحولها إلى احتكار فصيل واحد.

ولا ننسى أن مصر كانت الحاضنة الأولى لمنظمة التحرير منذ تأسيسها في القاهرة عام 1964، ودعمتها سياسيًا وعسكريًا في مراحل مفصلية من الصراع. اليوم من مصلحة مصر أن تعيد إحياء هذا الدور التاريخي في خطابها الإعلامي، وأن المقاومة هي مسار طويل حملته أجيال متعاقبة من مختلف الاتجاهات، وعمق القضية أكبر من أي فصيل، وأوسع من أي حركة. فهل آن الأوان أن يتحرر خطابنا الإعلامي من ضيق الاصطفافات، وأن يقدّم الصورة الحقيقية، لشعب واحد بمختلف فصائله، ومقاومة متعددة الروافد، وكلها تصب في نهر واحد هو التحرير والكرامة؟.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق عاجل- مدبولي: حوكمة منظومة الأسمدة وضمان وصولها للمزارعين أولوية لتحقيق الأمن الغذائي
التالى إعلام إسرائيلي: رئيس الموساد حذر من الهجوم على قطر ووصفه بالخطأ