لم يعد المشهد في مصايف مصر مقتصرًا على الكراسي البلاستيكية والشماسي الملوّنة، ولا ذلك الاصطفاف الأبدي للوجوه تحت الشمس الحارقة، فقد دخلت الشواطئ المصرية منذ سنوات قليلة في مرحلة جديدة: صارت مساحةً للركض، والطيران فوق الماء، والغوص تحت الأعماق.
بين الكاياك، وركوب الأمواج، والغوص، و«الستاند أب بادِل»، والباراسيل ينج، تحوّل صيف المصريين من موسم استرخاء خامل إلى وقتٍ يشتعل بالحركة واللياقة والتحدي.
هي حكايةُ جيلٍ جديد اكتشف شغف البحر لا كديكورٍ للصورة فقط، بل كساحةٍ لتفريغ الطاقة، ولإثبات الذات أيضًا.
الكاياك.. مغامرة هادئة فوق صفحة الماء

في الصباح الباكر، قبل أن تحتدم حرارة شمس يوليو، يمكنك أن ترى تلك الزوارق الضيّقة الملونة تشق صفحة البحر بهدوء، يقودها شبابٌ وفتيات يرتدون سترات نجاة زاهية، الكاياك، الذي كان غريبًا تمامًا قبل عقدٍ واحد، صار اليوم علامةً أساسية في شواطئ الإسكندرية والجونة والعين السخنة.
قصص عشاق الكاياك تبدأ غالبًا بفضول بسيط: تجربة تجديف قصيرة، لكنها تنتهي بشغفٍ كامل؛ فالساعات فوق القارب تمنح عقلًا صافيًا وعضلاتٍ مشدودة، وإحساسًا حرًا بأن العالم كله يمكن الإبحار فيه، إنها رياضة تتطلب قوة تركيز واتزانًا دقيقًا، وتقدم في المقابل صفاءً ذهنيًا يكاد يُشبه التأمل.
دائما ما يقول رواد الكاياك: «الكاياك بالنسبة لي أجمل من الجيم؛ كل حركة تجديف تدرب جسدي، وفي الوقت نفسه أتنفس هواءً نقيًا وأشاهد البحر من زاوية لا يراها رواد الشاطئ».
ركوب الأمواج.. الحلم الذي انتقل من كاليفورنيا إلى الساحل الشمالي

كانت مشاهدة ركاب الأمواج حكرًا على شواطئ هاواي وكاليفورنيا في الأفلام الأجنبية. لكن مع بداية العقد الماضي، ظهر على شواطئ الساحل الشمالي والإسكندرية والبحر الأحمر مشهدٌ جديد: ألواحٌ ملوّنة يعلوها شباب يرقصون فوق القمم البيضاء للموج.
ركوب الأمواج ليس مجرد استعراض؛ هو رياضةٌ صعبة تحتاج قوةً جسدية وتوازنًا نفسيًا. من يخوض التجربة لأول مرة يسقط مرارًا، لكن لذّة الوقوف للحظات فوق موجةٍ تُسابق الريح لا تُنسى.
واللافت أنّ الفتيات المصريات اقتحمن هذه الرياضة بشجاعة، فتراهن يحملن الألواح الثقيلة، يسبحن ضد الموج، ثم يحاولن الوقوف في وجه الريح؛ في صورةٍ أصبحت رمزًا للثقة والاستقلال.
الغطس.. رحلةٌ إلى مملكة الألوان تحت البحر

حين يختفي سطح البحر خلف طبقة القناع الزجاجي، تبدأ مغامرةٌ مختلفة. الغطس، الذي ازدهر طويلًا في الغردقة وشرم الشيخ، صار اليوم خيارًا يستهوي حتى زوار السواحل الأقرب للقاهرة، مثل العين السخنة.
الغطاسون يُشبهون المستكشفين القدامى؛ كل نزولٍ إلى الأعماق يُقابَل بدهشةٍ جديدة: شعابٌ مرجانية بألوان مدهشة، أسماكٌ غريبة الأشكال، وصمتٌ بحريٌّ ثقيل لا يُشبه صخب البر. الغطس يجمع بين الرياضة والهواية، بين المغامرة والتأمل، ويحتاج لتعلم قواعد أمان صارمة، لكنه في النهاية يُكافئ المغامر بمشهدٍ يُصعب وصفه بالكلمات.
«الستاند أب بادِل».. رياضة الوقوف على الماء

من بعيد، قد يبدو وكأن هؤلاء الناس يقفون بثبات فوق صفحة البحر بلا حركة، لكن الحقيقة أن الوقوف على لوحٍ عائم وتحريك مجداف طويل يتطلب تركيزًا هائلًا، الستاند أب بادِل، أو التجديف واقفًا، هي رياضةٌ حديثة نسبيًا اجتاحت شواطئ مصر منذ سنوات، وصارت وجهةً مفضلة لهواة الرشاقة والتأمل في وقت واحد.
هي رياضة هادئة الإيقاع لكنها شديدة الفاعلية: تمرّن الذراعين والكتفين والبطن، وتزيد الاتزان النفسي، وكل ذلك بينما تتحرك فوق البحر في مشهدٍ يُشبه لوحةً فنية.
«الباراسيلينج».. أن تُحلّق فوق البحر وتحمل ذكريات لا تنسى

بين زوارق الكاياك وألواح ركوب الأمواج، يلمع مشهدٌ آخر يخطف الأبصار: مظلة ضخمة ملونة تحلق عاليًا، بينما يعلق تحتها شخص أو شخصان يبتسمان في رهبةٍ ودهشة، هذه هي رياضة «الباراسيلينج»؛ واحدة من أسرع الرياضات البحرية انتشارًا في السنوات الأخيرة على شواطئ الغردقة وشرم الشيخ و الجونة وحتى بعض مناطق الساحل الشمالي.
يظن البعض أن الأمر مجرد تجربة قصيرة، لكن في الحقيقة الباراسيلينج مزيجٌ فريد بين الإثارة والرومانسية؛ فأنت ترى البحر، والرمال، والمباني الصغيرة، والمراكب الأخرى من ارتفاع قد يصل إلى 50 أو 100 متر، بينما يدفعك القارب السريع للأمام، في تلك الدقائق القليلة، يصبح البحر كله لوحة تحت قدميك، والريح تتلاعب بروحك قبل جسدك.
الكثيرون يصفون التجربة بأنها «تحليق بلا أجنحة»، وبعضهم يقول إن لحظة الصعود حين ينفصل جسدك عن الماء تشبه تحررًا حقيقيًا من ثقل الحياة اليومية، بينما يرى المصورون والمغامرون فيها فرصة لالتقاط صور وفيديوهات مذهلة توثق مغامرتهم من زاويةٍ لا يراها أحد سواهم.
هذه الرياضة قد تبدو ترفًا في ظاهرها، لكنّها في الحقيقة مغامرةٌ تُذكّرك بقيمة الشجاعة ومتعة مواجهة الخوف.. وتضيف لمصيفك ذكرىً تحكيها طويلًا بعد العودة.
«الويك بورد».. رقصة فوق الماء بسرعات الجنون

في مشهد يبدو وكأنه مقتطع من فيلم حركة، يُمسك الشاب بحبل مشدود موصول بمركب سريع، يقف فوق لوح صغير، ينحني قليلًا ليتحكم في توازنه… ثم ينطلق مع اندفاع القارب بسرعة كبيرة، ليبدأ في القفز والدوران وحتى أداء حركات استعراضية مثيرة على سطح الماء.
هذه هي رياضة الويك بورد؛ إحدى أسرع الرياضات المائية انتشارًا بين الشباب الباحثين عن الأدرينالين والتحدي، خصوصًا في منتجعات الساحل الشمالي والغردقة والجونة.
اللاعب هنا يواجه قوة المياه وسرعة القارب معًا، يحاول أن يبقى واقفًا… ثم لا يكتفي بالثبات، بل يقفز ويدور ويميل وكأنه يرقص مع الأمواج، هي رياضة تجمع بين القوة البدنية العالية، وخفة الحركة، والجرأة في مواجهة السقوط، لأن السقوط حتمي، لكن النهوض بعدها متعة أكبر.
الويك بورد ليس مجرد عرض قوة، بل أيضًا تعبير عن الحرية؛ ذلك الشعور الطاغي بأنك تُمسك بالحبل، وتتحكم أنت في الاتجاه والحركة حتى لو كان البحر كله يهتز من حولك.
من الكراسي إلى الألواح
الأجيال الأقدم كانت ترى البحر مكانًا للراحة، أما الجيل الحالي فيراه ساحةً للتجربة والتحدي، شباب وفتيات اختاروا الألواح والزوارق بدلًا من الكراسي البلاستيكية؛ العَرَق بدلًا من الكسل؛ والتحليق فوق الماء بدلًا من الاكتفاء بالنظر إليه.
ورغم أن هذه الرياضات بدأت كموضة مرتبطة بالمصايف الأكثر رفاهية، فإنها اليوم تنتشر أيضًا على شواطئ عامة بأسعار أقل ودروس تدريب جماعية. في مشهدٍ يشبه دمقرطة الرياضة البحرية.
البحر لا يفرق بين شاب وكهل
ربما يُظن أن هذه الرياضات حكرٌ على الشباب، لكن الحقيقة أن بين محترفي الكاياك وركوب الأمواج من تخطّوا الأربعين والخمسين، السر يكمن في أن البحر يُعطي كل شخص ما يبحث عنه: الحركة السريعة للشباب، والهدوء المتأمل للكبار، والدهشة للأطفال.
أبرز الشواطئ المصرية التي تحتضن الموضة الجديدة
الساحل الشمالي صار وجهةً مفضلة لمحترفي ركوب الأمواج؛ الموج هناك أطول وأهدأ في بعض الأيام، الجونة ودهب والغردقة تحتضن مدارس متخصصة لتعليم الغطس والتجديف والكاياك والإسكندرية، بتراثها العريق، تُضيف روحًا مصرية خاصة إلى المشهد.
رياضة وصناعة ولياقةٌ عقلية لا جسدية
هذه الرياضات لم تبقَ مجرد هواية؛ بل تحولت لصناعةٍ تُدرّ دخلًا على المراكز السياحية، وتفتح فرص عمل لمدربين محترفين، وصيانة المعدات، وتأجيرها، وقد انتشرت متاجر متخصصة في بيع الألواح، السترات، الأقنعة، وحتى كاميرات ضد الماء.
المثير أنّ كثيرًا من الممارسين يتحدثون عن تأثير عقلي ونفسي يفوق الجسدي، البحر مساحةٌ للتأمل، والرياضة تُحوّل القلق اليومي إلى حركة تُنقي الذهن، هو لقاءٌ بين جسد مُتعب وامتدادٍ أزرق لا نهاية له.
ورغم أنّ هذه الرياضات مستوردة في أصلها، فإنها اكتسبت طابعًا مصريًا خاصًا، فتجد شبابًا يُدرّسون الكاياك باللهجة العامية، أو يُزينون الألواح برسومات نوبية أو فرعونية، ليصبح المشهد خيطًا جديدًا يربط بين هوية المكان وروح العصر.
وفي بعض الشواطئ، تُقام عروض موسيقية حية وقت الغروب للمتدرّبين أو الغطّاسين العائدين، ويتحول الشاطئ إلى مساحة احتفال بحرية الجسد والعقل معًا. لوحات، ورش رسم، تصوير تحت الماء؛ مشهد يُشبه مهرجانًا صيفيًا لا ينتهي.
ومع ازدياد شعبية هذه الرياضات، ظهرت الحاجة لمزيد من التنظيم: مناطق مخصصة للسباحة فقط، وأخرى للرياضات البحرية؛ شروط عمرية وصحية؛ وتدريبات إسعافات أولية، فالبحر يُعطي، لكنه لا يغفر التهاون.
وصار هناك سائحٌ يأتي خصيصًا للغطس أو التزلج على الأمواج، أو للتدريب على الكاياك، فالسياحة الرياضية البحرية أصبحت جزءًا من خطط تسويق المنتجعات، بما يجذب شبابًا يبحث عن الحركة بدلًا من الاسترخاء السلبي.
مع دخول رياضات جديدة مثل «الهايدروفويل» التي تطير فوق الماء، و«الويك بورد» المربوط بقارب سريع، يتسع المشهد أكثر، ويبدو أن صيف مصر لن يعود أبدًا كما كان.
الصيف لم يعد استراحةً فقط؛ صار امتحانًا للإرادة والصبر والترفيه أيضا، مساحةً لاكتشاف الجسد والنفس، من الكاياك إلى ركوب الأمواج، ومن الغطس إلى التجديف، تحوّل شاطئ مصر إلى فصل صيفي مفتوح يدرس فيه معنى الجرأة والتجربة.
يظل البحر هو المعلم الأكبر؛ يُعطي دروسًا في التوازن والصبر، ويهمس لكل عاشقٍ بالموج: «لا تخف.. جرب».