تبدو ملامح المشهد الدولى اليوم وكأنها لوحة مكتملة التفاصيل، تتداخل فيها الألوان الداكنة مع البقع المضيئة، لتكشف عن عالم يعيش حالة من التحول العميق فى موازين القوى، حيث لم يعد ممكنا قراءة السياسة الدولية بعين الماضى أو الاكتفاء بحدود التفاهمات التقليدية.
فما نشهده من تحالفات جديدة وتصريحات نارية وعروض عسكرية ضخمة ليس مجرد استعراض قوة عابر، بل هو انعكاس لتحولات استراتيجية قد تعيد صياغة النظام الدولى وتضعه على أعتاب مرحلة أكثر صعوبة وتعقيدا، وربما أكثر خطرا، فى هذا الإطار يبرز التحالف الروسى الصينى الكورى الشمالى كأحد أبرز تجليات هذا التحول، خاصة بعد العرض العسكرى الأخير وما تبعه من اتفاقيات وتفاهمات معلنة وضمنية، تحمل فى طياتها رسائل سياسية عميقة للعالم أجمع.
لقد جاء العرض العسكرى الذى جمع روسيا والصين وكوريا الشمالية ليؤكد أن الدول الثلاث لم تعد تنظر إلى نفسها كقوى منفصلة ذات مصالح متباعدة، بل كجبهة متقاربة فى مواجهة الغرب، مشاركة روسيا بعتادها الاستراتيجي، وحرص الصين على إبراز حضورها، وإصرار كوريا الشمالية على إظهار قدراتها الصاروخية، كلها رسائل تهدف إلى تثبيت صورة واضحة، تقول الصورة أن هناك معسكرا جديدا يتشكل على أنقاض التوازنات القديمة، الاتفاقيات التى تم توقيعها بين هذه الأطراف لم تقتصر على التعاون العسكري، بل شملت أبعادا اقتصادية وتقنية، مثل تبادل الموارد والاعتماد المتبادل فى سلاسل الإمداد الحساسة، مما يعكس توجها حقيقيا لبناء شبكة تحالفات متعددة المستويات لمواجهة العقوبات الغربية والضغوط السياسية.
وفى هذا السياق، لم يتأخر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن إطلاق تعليق مثير للجدل عبر تغريدة جديدة أشار فيها بلهجة ساخرة إلى أن روسيا والصين وكوريا الشمالية "يتبادلون التحيات فوق رءوس الصواريخ بينما يدفع الشعب الأمريكى ثمن فواتير حروب الآخرين"، مؤكدا فى الوقت ذاته أن الولايات المتحدة "لن تنجر إلى لعبة استنزاف تخدم غيرها"، هذه التغريدة تكشف بوضوح توجه ترامب نحو خطاب مزدوج فهو من جهة يسعى إلى طمأنة الداخل الأمريكى بأنه لن يغامر بإدخال بلاده فى صراعات مفتوحة، ومن جهة أخرى يرسل إشارة للخصوم مفادها أن واشنطن لن تتنازل عن مكانتها ولن تسمح بتهديد مصالحها الاستراتيجية، ومن هنا يمكن فهم مواقف الإدارة الأمريكية الحالية باعتبارها توازنا بين تجنب التصعيد المباشر والاستعداد لاستخدام أوراق الضغط الاقتصادية والسياسية فى أى لحظة.
التحالف الثلاثى يطرح سيناريوهات معقدة للمشهد العالمي، السيناريو الأول هو تصاعد سباق التسلح، حيث تدفع العروض العسكرية الضخمة الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية والهجومية فى المحيطين الهادئ والأطلسي، وهو ما قد يعيد العالم إلى أجواء تشبه الحرب الباردة، ولكن فى شكل أكثر خطورة بسبب التداخل الاقتصادى العالمى وسرعة انتقال الأزمات، السيناريو الثانى يتمثل فى تكوين تكتل اقتصادى مواز، حيث تستغل روسيا والصين إمكاناتهما فى الطاقة والتكنولوجيا لتقوية اقتصادات الدول المناهضة للغرب، مع استخدام كوريا الشمالية كحليف عسكرى رمزى يبعث برسائل تهديد غير مباشرة، أما السيناريو الثالث فهو تصاعد الأزمات الإقليمية التى قد تتحول إلى ساحات لتصفية الحسابات، مثل أوكرانيا وتايوان وشبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط، حيث قد تستخدم هذه المناطق كمسارح ضغط متبادل بين القوى الكبرى.
لكن الأفق لا يتوقف عند هذه السيناريوهات فحسب، بل يمتد إلى احتمالات أكثر تشابكا، فهناك سيناريو رابع يتمثل فى الانزلاق إلى مواجهة اقتصادية عالمية واسعة، حيث قد تتحول العقوبات المتبادلة وفرض القيود على التجارة والتكنولوجيا إلى سلاح استراتيجى يعيد تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ اقتصادية متناحرة، وفى هذا الإطار، سيكون لسلاسل الإمداد الغذائية والطاقة والتكنولوجيا موقع الصدارة، إذ إن أى اضطراب فى تدفق هذه الموارد سيؤدى إلى هزات عنيفة فى الأسواق العالمية قد تفوق آثارها ما شهدناه خلال أزمة جائحة كورونا. السيناريو الخامس يرتبط بإمكانية نشوء تحالفات مضادة، حيث قد تدفع هذه التطورات دولا مثل اليابان والهند وأستراليا وحتى بعض الدول الأوروبية إلى تعزيز تعاونها الأمنى والاقتصادى لمواجهة المحور الجديد، ما يعيد تشكيل الخريطة الاستراتيجية فى آسيا والمحيط الهادئ ويزيد من تعقيد المشهد، وهناك أيضا سيناريو سادس لا يقل خطورة، وهو انتقال التنافس إلى الفضاء السيبرانى والفضاء الخارجي، حيث يسعى كل طرف إلى فرض سيطرته على مجالات جديدة من القوة، وهو ما قد يجعل أى صراع مستقبلى شاملا لأبعاد لم يعرفها العالم من قبل.
التبعات المتوقعة لهذه السيناريوهات لا تقتصر على المجال العسكرى أو الأمني، بل تمتد إلى السياسة والاقتصاد وحتى البنية الاجتماعية للدول، ففى حال تصاعد سباق التسلح، ستواجه الاقتصادات الكبرى تحديات داخلية فى تمويل هذه النفقات، مما قد يولد ضغوطا اجتماعية وسياسية متنامية. وإذا ما تصاعدت الحرب الاقتصادية، فإن الدول النامية ستكون أكثر المتضررين بفعل ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتعطل سلاسل الإمداد، أما فى حال اتساع نطاق التحالفات المضادة، فقد يجد العالم نفسه أمام شبكة من الاستقطابات المتقابلة التى تضعف فرص التعاون الدولى وتزيد من احتمالات المواجهة المباشرة.
إن فكرة العودة إلى أجواء الحرب الباردة تبدو مطروحة بقوة فى هذا السياق، لكن الفارق الجوهرى هو أن النسخة الجديدة المحتملة ستكون متعددة الأقطاب وليست ثنائية كما كان الحال فى القرن العشرين، حيث نجد إلى جانب الولايات المتحدة هناك الصين الصاعدة بقوة، وروسيا التى تسعى لإعادة تثبيت حضورها العالمى رغم أزمتها الاقتصادية، وكوريا الشمالية التى تستخدم خطابها النووى كأداة للضغط السياسي، هذا التعدد فى مراكز القوى يعنى أن المشهد سيكون أكثر تقلبا وأقل قابلية للضبط، مما يزيد من احتمالات الانزلاق إلى مواجهات غير محسوبة.
أما أوراق القوة التى يمتلكها كل طرف فهى متباينة، روسيا تملك ورقة الطاقة وتأثيرها المباشر على أسواق الغاز والنفط العالمية، إلى جانب ترسانتها النووية، الصين تعتمد على قوتها الاقتصادية الهائلة وسلاسل الإمداد الصناعية التى تربطها بالعالم كله، كوريا الشمالية تعتمد على عنصر المفاجأة وتهديدها النووى الذى يجعلها رقما صعبا رغم ضعف اقتصادها، فى المقابل تمتلك الولايات المتحدة أوراقا لا تقل قوة، من بينها سيطرتها على النظام المالى العالمي، وهيمنة الدولار، وتحالفاتها العسكرية مع الناتو واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إضافة إلى قدرتها على حشد الرأى العام الغربى خلف سياساتها.
وفى المحصلة، فإن موازين القوى الحالية تميل لصالح الولايات المتحدة وحلفائها من حيث القوة الاقتصادية والتقنية، لكنها فى المقابل تواجه تحديا متزايدا من التكتلات الجديدة التى تسعى إلى تقويض هذه الهيمنة. المستقبل القريب قد يشهد توازنا أكثر تعقيدا، حيث لا يملك أى طرف القدرة على حسم الصراع لصالحه بشكل كامل، مما يفتح الباب أمام مرحلة من الصراعات الممتدة التى قد تتخللها فترات من التهدئة المؤقتة، هذه اللوحة المتشابكة تعكس بوضوح أن العالم يقف اليوم على مفترق طرق حاسم، بين إمكانية انزلاقه إلى صدام شامل أو قدرته على إنتاج صيغة جديدة للتوازن، صيغة ستحددها قرارات القادة الكبار فى لحظات مفصلية قد تأتى فجأة كما يحدث فى لحظات التاريخ الكبرى.
