بعد أربع محطات فكرية توقفتُ فيها مع شيخ الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود، حاولتُ أن أضيء رؤيته للشباب، ثم قراءته العميقة في الشرق الفنان بين الشرق والغرب، ثم فلسفته حول العقل المصري وتوتره بين المنطق والوجدان.
اليوم، أضع القارئ أمام تجربة إنسانية فريدة عاشها هذا الفيلسوف الكبير مع الكتابة نفسها: كيف نظر إليها، وكيف مارسها، وكيف جعل منها قدره الذي لا فكاك له؟.
لقد سألت شيخ الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود عن الكتابة هل هي عنده سارة أم مؤلمة؟ فأجاب بدقة:
اسمع، المسألة لها وجهان.. هي سارة جدًا، لأنها حياتي. ولعلك تعلم أنني أُصبت في بصري ولا أكاد أرى، وكان ينبغي – لو كنت عاقلًا – أن أكف عنها، وعن الاتصال بالورق إطلاقًا، ولكنني لم أستطع، فأنا الآن أبذل ما بقي من بصيص في عيني لأكتب، ولا أستطيع القراءة. هل تعلم أنني أكتب بحركة اليد بعد أن انتهى بصري؟ فلو لم يكن الدافع قويًا جدًا لهذه الرغبة، ما كتبت. فهي سارة لهذا المعنى.
أما أنها مؤلمة، فهي – ولا شك – مؤلمة؛ فقد عانيت كثيرًا جدًا في حياتي الماضية بسبب ما كتبته، لأنني كنت أحاول أن أكون صادقًا مع نفسي. وأنا لا أعرف ما الذي يُقرأ، لأنني لا أعطي الأولوية لمذهب، فأنا لست عبدًا للمذهب، أنا خادم للفكرة التي في رأسي، أُحللها بقدر ما أستطيع...
قلت له: ولكن هل ترى أن الكتابة ممارسة أم متعة؟
توقف ثوانٍ، وكأنه فوجئ بالسؤال، ثم قال بهدوء:
الاثنان يلتقيان.. أنا لا أرضى لنفسي أن أقذف بالكلمات كما اتفق على الورق أبدًا، إنما أحب اللفظ الجميل. متعة طبعًا.
هل تعلم أنني لم أكتب مسودة في حياتي لشيء أكتبه؟ الذي أكتبه مرة واحدة يذهب إلى المطبعة، وأضيف إلى ذلك أنه في السنوات الأخيرة لم أعد أقرأ ما أكتبه، لكن الذي يجعلني أكتب بنفسي – مع أن بصري وصل إلى حكم العدم – هو أنني أصوغ الفكرة بلفظها أثناء الكتابة، وأركز كل انتباهي في المعنى والنغم، ولا أستطيع أن أفصل هذا عن ذاك.
سألته: وكيف تتم عملية الكتابة ذاتها؟
قال: الحقيقة أنني لا أستطيع أن أكتب إلا إذا كان هناك موضوع نشأ في ذهني ويحتاج إلى كتابة، فتنشأ الفكرة أولًا، ومعظم الأحيان لا أتقبلها كموضوع يُكتب عنه إلا إذا وجدت أنها تمس جانبًا من جوانب حياتنا، يراد لها إما الإظهار وبيان موضع القوة فيه، وإما أن أُظهر موضع النقص فيه وكيف يجب أن يتغير..
أنا أكتب دفاعًا عن المصري كثيرًا جدًا، لأنه في نظري يكاد يكون فريدًا في نوعه، من حيث غزارة الثقافة وعمق النظرة، حتى ولو كان فلاحًا بسيطًا.. عذوبة من هذّبته الأيام والسنين.. المصري كان يُراد له أن يظهر جوهره وطبيعته، ولكن في الوقت نفسه نريد له أن يتحرك مع الزمن.. لقد كتبت كثيرًا في التفرقة بين الثوابت في طبيعة المصري والجوانب التي تقبل التغيير في تلك الطبيعة.
سألته: وما هي هذه الثوابت وما هي هذه المتغيرات؟
قال: هناك ثوابت يجب أن تبقى، وبها يصبح المصري مصريًا، ولكن هناك جوانب تتغير مع تغيّر الحضارة. وأهم الثوابت في المصري هي علاقته بدينه، وبأسرته، وبأرضه.. المصري عابد صانع، تجده في تاريخه كله صانعًا.. ثراء اليد الماهرة، والذوق فيما يصنع، والميل إلى أن يتقن.
ولاحظ أن هذا هو المصري قبل أن "يتلخبط".. المصري الذي كان يتقن عمله حتى ولو لم تُعطه أجرًا كافيًا، فالإتقان هنا إتقان لذات الإتقان.. المصري الذي يُباهي بعمله
ثم أضاف بحسرة: المصري الآن فقد الرغبة في الإتقان!.
لقد كشف لنا الدكتور زكي نجيب محمود في هذه المحطة الخامسة عن وجهه الإنساني العميق، الذي تتجلى فيه قيمة فكره الذي لا ينفصل عن واقع الناس.. لكن الذي لم يتوقعه رائد الفكر الفلسفي العربي الحديث هو أن أسأله، كفيلسوف: هل يؤمن بوجود الحظ في حياة البعض أم لا؟ وليس هذا هو الغريب، ولكن الأغرب هو رده على هذا السؤال!.
الأسبوع القادم – بإذن الله – أكمل الحوار مع شيخ الفلاسفة الدكتور زكي نجيب محمود.