منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل ما يقارب 23 شهراً، لم تعد تداعياتها مقتصرة على الميدان العسكري أو السياسي فحسب. شيئاً فشيئاً، امتدت تأثيراتها إلى حياة الإسرائيليين اليومية، متسللة إلى تفاصيل لم تكن تخطر على البال: المطاعم، الفنادق، الشواطئ، وحتى السفن السياحية.
في أوروبا، وبين شوارع المدن المتوسطية، أصبحت الجنسية الإسرائيلية سبباً في الطرد والمنع من دخول أماكن عامة، وسط مشاهد وثّقتها عدسات الهواتف وانتشرت كالنار في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ما يراه البعض حوادث فردية، يعتبره آخرون مؤشراً على تحول الغضب العالمي من صور الدمار في غزة إلى ما يشبه "مقاطعة شعبية" لإسرائيل، حيث مشاعر استياء متصاعدة، أذكاها استمرار المجازر وسقوط آلاف الضحايا، دفعت بشعوب في دول غربية إلى التعبير عن احتجاجها بشكل مباشر ضد السياح الإسرائيليين. تصاعد هذا الغضب تزامن مع مطالبات متزايدة بمحاسبة قادة إسرائيليين، يتصدرهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المطلوب حالياً لدى المحكمة الجنائية الدولية، وفق تقرير لـ"الجزيرة"
ملصق على الجدار يشعل مواجهة في اليونان
في جزيرة ناكسوس اليونانية، لم يحتج الموقف إلى أكثر من ملصق صغير على جدار مطعم يدعو إلى مقاطعة إسرائيل. أحد أفراد عائلة بريطانية يهودية لم يتحمل وجوده، فحاول تمزيقه. لكن صاحب المطعم كان حاسماً. طلب منهم مغادرة المكان فوراً، وقوبل الطلب بتصفيق وسخرية من الزبائن الآخرين. الموقف لم ينتهِ عند الطرد، إذ وثّقته الكاميرات ونُشر على الإنترنت، ليجد صداه في قلب أوروبا باعتباره رسالة واضحة على اتساع رقعة التضامن الشعبي مع الفلسطينيين.
صراخ وطرد واتهامات بالقتل في إسبانيا
أما في مدينة فيجو الواقعة شمال غربي إسبانيا، فالموقف كان أكثر تصعيداً. مجموعة من ثمانية سياح إسرائيليين دخلوا أحد المطاعم لتناول وجبة، لكن ما واجهوه كان عكس الترحاب المعتاد. مدير المطعم بادرهم بالصراخ: "أنتم تقتلون فلسطين، اذهبوا لتناول الطعام في غزة!" ثم سحب منهم قائمة الطعام مضيفاً: "أنتم تقتلون الناس ثم تذهبون في إجازة. اخرجوا من هنا!" الهتافات تعالت من الزبائن الآخرين: "فلسطين حرة" و"عاشت فلسطين"، بينما المشهد صوّره المدير بنفسه ونشره، لتبدأ بعدها عاصفة من الجدل على مواقع التواصل.
الواقعة فتحت تحقيقاً من قبل الشرطة الإسبانية، وسط تباين في الآراء: هل هو موقف إنساني غاضب أم تمييز على أساس الجنسية؟ في حين أن الجدل لم يُطفئ نار الواقعة، بل زادها اشتعالاً، لا سيما مع تسجيل ارتفاع غير مسبوق في الحوادث المرتبطة بما يُصنف على أنه معاداة للسامية، معظمها ارتبط مباشرة بالحرب على غزة.
الإسرائيليون غير مرحب بهم في إيطاليا
في إيطاليا، وتحديداً في مدينة نابولي، اتخذت الأمور منحى قانونياً. زوجان إسرائيليان طُردا من مطعم بعد نقاش دار بينهما وبين صاحبة المكان حول الحرب في غزة.
الأخيرة قالت لهما بوضوح: "الصهاينة غير مرحب بهم"، وأكدت دعمها لما سمّته "الحملة ضد الإبادة الفلسطينية"، بينما الفيديو الذي وثّق الحادثة انتشر بسرعة، ودفع بالسفارة الإسرائيلية في روما للتدخل، وبينما يفكر الزوجان في اللجوء إلى القضاء، تستمر وسائل الإعلام الإيطالية والعالمية في تداول الواقعة على نطاق واسع.
البحر يضيق بالإسرائيليين
التوترات لم تبقَ على اليابسة فقط. في عرض البحر، أصبحت السفن السياحية التي تقل إسرائيليين تواجه احتجاجات واسعة في موانئ يونانية، ففي جزيرة سيروس، رفض مئات المتظاهرين السماح لسفينة سياحية، على متنها حوالي 1600 راكب إسرائيلي، بالرسو، ورفعوا لافتة ضخمة كُتب عليها "أوقفوا الإبادة الجماعية"، إلى جانب الأعلام الفلسطينية، وفي النهاية السفينة اضطرت لتغيير مسارها نحو قبرص.
وفي مشهد مشابه بجزيرة أخرى ضمن مجموعة جزر سيكلاديك، منع أكثر من 300 متظاهر سفينة "كراون إيريس" من إنزال ركابها الإسرائيليين، وسط مخاوف أمنية. لم تكن هناك أي مواجهة عنيفة، لكن الرسالة كانت واضحة: الإسرائيليون غير مرحب بهم، حتى وسط البحر.
الكارثة تتجاوز الأرقام في غزة
في الوقت الذي يواجه فيه الإسرائيليون مواقف محرجة في الخارج، يعيش الفلسطينيون في قطاع غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة. وفقاً لوزارة الصحة في غزة، أسفرت الحرب المستمرة منذ ما يقارب العامين عن سقوط نحو 63,459 قتيلاً، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب أكثر من 160 ألف مصاب. هناك أكثر من 9 آلاف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين الذين يعيشون أوضاعاً مأساوية.
تسببت المجاعة في وفاة 339 شخصاً، بينهم 124 طفلاً، حتى الأحد الماضي، في ظل انهيار تام للمنظومة الصحية ونقص حاد في الغذاء والدواء والماء. الانفجارات لم تميز بين مقاتل ومدني، وحتى "المناطق الآمنة" لم تنجُ من القصف. قُتل خمسة أطفال أثناء محاولتهم جلب الماء لعائلاتهم، وقُصفت عشرات المنشآت الطبية، رغم التحذيرات الدولية.
ووثقت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة مئات الانتهاكات بحق المرافق الصحية والإنسانية. وقدرت دراسة حديثة أن العدد الحقيقي للوفيات قد يتجاوز 93 ألف شخص، إذا ما أُخذت في الاعتبار الوفيات غير المباشرة جراء الحصار، والجوع، وانهيار الخدمات.
صورة مشوهة وجواز سفر ثقيل
تكرار هذه الحوادث في عدة دول أوروبية ومتوسطية يعكس تحوّلاً في المزاج الشعبي العالمي. فبينما لا تزال الحكومات الغربية تتردد في اتخاذ مواقف حاسمة تجاه إسرائيل، يبدو أن الشارع قد اختار وجهته: موقف غاضب، مباشر، لا يتردد في التعبير عن رفضه لسقوط آلاف الضحايا في غزة، والإسرائيليون المسافرون أصبحوا يواجهون هذا الرفض وجهاً لوجه، في المطارات والمطاعم والشوارع. وربما لأول مرة، لم يعد جواز السفر الإسرائيلي ضماناً للتنقل بحرية، بل أصبح عبئاً في بعض الأماكن.