في صباح الغد الثالث من سبتمبر، ستتزين سماء بكين بألوان الطائرات الحربية وهي تحلق في تشكيلات دقيقة فوق ميدان تيانانمن، بينما تدوي محركات الدبابات العملاقة على أرض الساحة التي ستشهد واحداً من أضخم الاستعراضات العسكرية في تاريخ الصين الحديث.
في المقدمة ستزحف الصواريخ النووية، رمز القوة الاستراتيجية لبكين، تتبعها عربات مدرعة وجنود مصطفون بخطوات منضبطة، في مشهد يختزل عقوداً من السعي وراء تثبيت مكانة الصين كقوة عظمى، لكن الأنظار، وسط هذا الاستعراض الهائل للقوة، لن تقتصر على الأسلحة المتقدمة وحدها، بل ستتركز أكثر على الزعماء الجالسين في المنصة الرئيسية، حيث يشارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون ضيفين بارزين للرئيس الصيني شي جينبينج، في صورة سياسية تحمل من الرمزية أكثر مما تحمل من الطابع البروتوكولي.
تحالف ثلاثي تحت الأضواء
الحدث، الذي يصفه المراقبون بأنه أكثر من مجرد استعراض قوة عسكرية، يفتح الباب أمام تساؤلات عدة بشأن طبيعة العلاقة بين بكين وموسكو وبيونج يانج، وما تكشفه هذه المشاركة الثلاثية من خطط مستقبلية قد تعيد رسم موازين القوى في الساحة الدولية. فغياب السفر المتكرر لكيم وبوتين في السنوات الماضية جعل من حضورهما في هذا اليوم تحديداً رسالة سياسية بقدر ما هو مشاركة في مناسبة تاريخية، وهو ما دفع المحللين إلى محاولة قراءة ما وراء الصورة التي ستجمع الزعماء الثلاثة في قلب العاصمة الصينية.
قلق كوري جنوبي متصاعد
في كوريا الجنوبية، لم تمر هذه التطورات مرور الكرام، إذ ينظر إليها كمؤشر خطير على ما يمكن أن يترتب من تحالف عسكري أو استراتيجي غير معلن بين كوريا الشمالية والصين وروسيا. تقول الخبيرة مون، في تصريحات لـ "بي بي سي الكورية"، إن زيارة كيم إلى بكين في هذه المناسبة تعد تحركاً استراتيجياً في مواجهة التعاظم اللافت للتعاون بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان. وتضيف أن الزيارة تمثل دليلاً على رغبة بيونج يانج في تعزيز موقعها ضمن مثلث يجمعها مع موسكو وبكين، ما يفتح الباب أمام تحولات غير مسبوقة في البيئة الأمنية لشبه الجزيرة الكورية.
تداعيات أمنية محتملة
وترى مون أن هذا التقارب الثلاثي قد تكون له تداعيات بالغة الخطورة على سول، إذ يزيد من احتمالات التعاون في مجالات حساسة مثل تطوير أنظمة الأسلحة وتكنولوجيا الصواريخ، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، فضلاً عن دعم لوجستي محتمل، وهو ما يعزز المخاوف من أن يشكل هذا التحالف غير المعلن معادلة جديدة تفرض واقعاً أكثر تعقيداً على الأمن الإقليمي.
بوتين والعودة إلى المسرح الدولي
في المقابل، ينظر إلى حضور بوتين في الاستعراض باعتباره جزءاً من مسعى روسي للعودة بقوة إلى الساحة العالمية، في وقت تتعرض فيه موسكو لضغوط غربية متزايدة بسبب الحرب في أوكرانيا. وجود الرئيس الروسي إلى جانب كيم وشي في ميدان تيانانمن، بحسب مراقبين، يحمل رسائل مزدوجة: الأولى موجهة إلى الداخل الروسي لتأكيد مكانة بوتين كزعيم حاضر على مسرح الأحداث الدولية، والثانية إلى الغرب مفادها أن روسيا لا تزال تملك حلفاء أقوياء قادرين على موازنة النفوذ الأمريكي في آسيا.
تايوان خارج المشهد
وفي استعادة للماضي القريب، تشير خدمة بي بي سي الصينية إلى أن الاستعراض العسكري ذاته قبل عشر سنوات شهد مشاركة شخصية بارزة من تايوان، إذ حضر حينها رئيس حزب الكومينتانج الحاكم، في لحظة وصفت بأنها فترة تفاهم أولية في العلاقات عبر المضيق. لكن المشهد تغير كلياً منذ عام 2016 مع وصول الحزب التقدمي الديمقراطي إلى السلطة في تايوان، وهو حزب يتسم عادة بعلاقات فاترة مع بكين. هذه الفتور تجلى بوضوح في رفض تايوان المشاركة في العرض الحالي، حيث فرضت سلطاتها حظراً على سفر المسؤولين العموميين إلى بكين، رداً على سياسات الصين تجاه المعارضين في هونج كونج.
إصرار صيني على التوحيد
وبذلك، يغيب أي تمثيل تايواني عن المناسبة التي يتوقع أن يحضرها 26 رئيس دولة، في خطوة تؤكد عمق الخلاف بين بكين وتايبيه، وتعكس في الوقت نفسه إصرار الصين على اعتبار الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وهو موقف لطالما أكدته القيادة الصينية، مقرونة بتعهدات متكررة بالسعي إلى "إعادة التوحيد".
اصطفاف جديد يغير الموازين
المشهد يتجاوز كونه عرضاً عسكرياً تقليدياً، ليصبح ساحة لإبراز تحالفات سياسية وعسكرية قد تعيد رسم توازنات المنطقة. فبينما تحاول واشنطن تعزيز تعاونها مع حلفائها في شرق آسيا، تتحرك بكين وموسكو وبيونج يانج نحو بناء تفاهمات أكثر عمقاً، ولو لم تصل إلى حد الإعلان عن تحالف رسمي. وبالنظر إلى حساسية المرحلة، فإن حضور بوتين وكيم في بكين لا يعد مجرد مشاركة بروتوكولية، بل هو إشارة إلى اصطفاف جديد قد تكون له انعكاسات واسعة على مستقبل الأمن في آسيا والعالم.