
محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث في الجيوسياسية
محمد سعد عبد اللطيف
لم يكن المشهد في قصر بعبدا ظهر الثلاثاء عابراً، حين خرج المبعوث الأمريكي "توم باراك" على الصحفيين بعبارات أقرب إلى لغة الشارع منها إلى لغة الدبلوماسية، وكأنه يتحدث مع قطيع لا مع نخبة إعلامية في بلد ما زال يُعدّ مركز إشعاع حضاري في المنطقة. ما قاله الرجل لم يكن مجرد زلّة لسان، بل يعكس ذهنية راسخة في العقل السياسي الأمريكي: ذهنية الاستعلاء على شعوب الشرق الأوسط، والنظر إليهم باعتبارهم "عائقاً" في طريق المشاريع الأميركية المتشابكة.
من الفينيقيين إلى الحاضر.. لبنان ليس بلداً يُهان!
لقد ذكّرني مشهد باراك وهو يتبجح بكلمات لا تليق بدبلوماسي، بزيارة هنري كيسنجر الأولى إلى المنطقة منتصف السبعينيات، حين وصف الشرق الأوسط بأنه "منطقة متعجرفة"، قبل أن يبدأ بترتيب خرائط النفوذ الأمريكي ورسم خطوط النار بين العرب وإسرائيل. كيسنجر جاء بعقلية "المهندس البارد" الذي يصوغ خرائط على الورق، أما باراك فجاء بعقلية "السمسار الغليظ" الذي يتحدث بلغة مقاول سوقي، فيكشف ما تحاول أمريكا إخفاءه من نوايا حقيقية.
لكن المفارقة التاريخية أن المبعوث الأمريكي هذه المرة لم يدرك أنه يقف في بلد كان يوماً قلب حضارة "الفينيقيين" الذين علّموا العالم الأبجدية والتجارة البحرية وصناعة الزجاج والأرجوان. لم يدرك أن من أمامه ليسوا أبناء صحراء قاحلة بلا تاريخ، بل أحفاد أمم صنعت المدن الكبرى على شواطئ المتوسط.
فماذا يملك باراك ليتباهى به؟ أمريكا نفسها لم يُكتب لها تاريخ إلا بالأمس القريب، ومنذ نشأتها وهي تعيش على استيراد العقول والثروات، وتصدير الحروب والانقلابات.
إن الوقاحة التي تحدث بها باراك ليست مجرد إهانة للإعلام اللبناني، بل هي إعلان صريح عن كيفية نظر واشنطن إلى لبنان: قطعة شطرنج صغيرة على رقعة أكبر، تُحركها بحسب موازين النفوذ مع إسرائيل وإيران وسوريا.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا تريد أمريكا اليوم من لبنان؟
هل تريد دولة ضعيفة بلا مقاومة بعد أفول نجم حزب الله؟ أم تراها تسعى لفتح ثغرة في جدار الأزمة الاقتصادية والسياسية لتعيد فرض وصايتها المالية والأمنية؟ أم أن المطلوب هو فقط تطويع لبنان ليكون ملحقاً بتسويات إقليمية كبرى تكتب بنودها بين تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم العربية؟
إن ما قاله باراك قد يكون عابراً في اللفظ، لكنه عميق في الدلالة. فهو يفضح أن واشنطن لا ترى في لبنان إلا ساحة اختبار جديدة بعد أن خبت نار المقاومة. لكن ما لا يدركه باراك وأمثاله أن التاريخ علمنا: الشعوب التي أنجبت الحضارات، لا تُمحى بجملة متعجرفة، ولا تنكسر بمبعوث غليظ، ولو جاء من البيت الأبيض نفسه. ولعل الدرس الأوضح أن لبنان، برغم جراحه، سيبقى أقدم من أميركا، وأعمق من كل مبعوث عابر، وأذكى من كل سمسار سياسي يظن أنه يملك مفاتيح مصيره.
ومحرقة غزة خير شاهد على أن من يبيعون شعارات الحضارة والإنسانية، هم آخر من يحق لهم التنظير عن التحضّر.!!
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.