هوية قديمة للعاصمة كاتماندو.. شوارع مزدحمة تتقاطع مع أروقة المعابد
البيوت النيبالية مُبهرة بطابعها البسيط الساحر.. تعكس جمالًا هادئًا ينبض بالأصالة والدفء
رائحة البخور تنساب بين المارة.. وتتزين الساحات بالتماثيل والرموز الدينية
«جلست على أحد السلالم الحجرية داخل المتحف، أشاهد.. أستمتع.. أراقب المارة.. وأستمع لصوت أجراس المعبد القريب، تتداخل مع أصوات السيارات والدراجات البخارية والتى تنتشر بكثرة، لحظة صمت داخلي وسط الزحام، وكأن الزمن توقف، وسمح لي بأن أتنفس تاريخًا لا يُكتب، بل يُعاش»
كانت لحظة لا تُنسى، وفرحة عامرة غمرت قلبي عندما تلقيت اتصالًا من سوشيل كومار لامسال، سفير نيبال بالقاهرة، يُبلغني فيه باختياري للسفر إلى نيبال ضمن رحلة مميزة تضم مجموعة من شركات السياحة، لم أصدق في البداية! شعرت وكأن الحظ يبتسم لي، وكأن الأقدار اختارت لي مغامرة لا تُعوّض.
كانت كلمات السفير بالنسبة لي بمثابة بوابة لعالم جديد، رحلة لطالما حلمت بها، مليئة بالاكتشاف، والثقافة، والطبيعة الساحرة، إحساس لا يمكن وصفه إلا بأنه مزيج من الدهشة والامتنان والتشويق، منذ تلك اللحظة، بدأت أتخيل الجبال والمعابد والوديان، وأترقب كل لحظة في هذه التجربة الفريدة.
ونيبال هي دولة تقع في جنوب آسيا، عاصمتها كاتماندو، تحدها الهند من الجنوب والشرق والغرب، والصين من الشمال، تبلغ مساحتها حوالي 147.516 كيلومتر مربع، وهي دولة غير ساحلية، يُقدَّر عدد سكان نيبال بحوالي 30 مليون نسمة، لغتها الرسمية هي النيبالية، عملتها هي الروبية النيبالية، وتعتبر الهندوسية الديانة السائدة، حيث يمثل الهندوس 81.3% من السكان. تليها البوذية التي يمارسها 9% من السكان، ثم الإسلام بنسبة 4.4%، هناك أيضًا المسيحية والديانات الأخرى مثل الكيرات والسيخية والجاينية، وتشتهر نيبال بالتسامح والتعايش الديني.
كاتماندو.. حوار بين الروح والتاريخ
بدأت رحلتنا من العاصمة النيبالية كاتماندو، التي تبدو وكأنها تسكن في زمن خاص بها، المدينة تحتفظ بهويتها القديمة، لا ناطحات سحاب شاهقة، تتقاطع شوارعها المزدحمة مع أروقة المعابد، تبهرك البيوت النيبالية بطابعها البسيط الساحر، بساطتها لا تعني الفقر، بل تعكس جمالًا هادئًا ينبض بالأصالة والدفء، وكأن كل بيت يسرد قصصًا من تراث عريق، تشاهد محال صغيرة تفيض بالحياة، تتشابك فيها الأصوات والروائح والنكهات لتشكل لوحة فريدة تنبض بالروح، وتنساب رائحة البخور بين المارة، بينما تتزين الساحات بالتماثيل والرموز الدينية، وسط كل هذا الجمال والبساطة، تشعر وكأنك لا تعيش الحاضر فقط، بل تغوص في زمن عظيم، زمن من الحكمة والسكينة والروحانية، كل زاوية وكل ركن يحمل أثر حضارة ضاربة في الجذور، تُخاطب قلبك قبل عينيك.
وكان من أبرز ما زرته واحدة من أشهر معالم نيبال، وهي مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ساحة كاتماندو دوربار، الساحة الملكية التاريخية التي تضم قصورًا قديمة، ومعابد هندوسية وبوذية ولكل منها طراز معماري فريد، وتماثيل مذهلة تنطق بعبق الحضارة النيبالية، بين الأعمدة الخشبية المنحوتة بدقة والأسطح الحجرية التي خطتها أقدام الملوك، شعرت أنني أخطو في متحف مفتوح يحكي قصصًا من قرون غابرة.
وتتمتع ساحة كاتماندو دوربار بتاريخ عريق وغني، يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر، كانت الساحة في الأصل القصر الملكي لملوك مالا في نيبال، الذين حكموا وادي كاتماندو من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر، وُسِّعت الساحة وجُدِّدت لاحقًا على يد سلالة شاه، التي حكمت نيبال من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وهي وجهةً لا غنى عنها لكل من يهتم بالتراث الثقافي والتاريخي الغني لنيبال، تُتيح الساحة لمحةً عن ماضي البلاد، بهندستها المعمارية الرائعة وأنشطتها الثقافية النابضة بالحياة.
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى ساحة باتان دوربار، التي تقع في قلب مدينة لاليتبور في نيبال، أحد أعجوبة الهندسة المعمارية في نيوار، وهي عبارة عن مجموعة من القصور والمعابد والأضرحة القديمة، ذات الأعمال الخشبية المعقدة والمنحوتات الحجرية الرائعة، لقد كانت مركز الحياة الدينية والاجتماعية لعدة قرون، يتشابك تاريخ الساحة بعمق مع ملوك مالا الذين حكموا وادي كاتماندو وتركوا وراءهم إرثًا من الفن والهندسة المعمارية لا يزال يثير إعجاب الزوار حتى يومنا هذا.
ثم قمنا بجولة داخل متحف باتان والذي يُعدّ من أرقى المتاحف، إذ يعرض مجموعة من الأعمال الفنية من العصور القديمة، كان هذا المتحف قصرًا للملك سيدهي نارسينغ مالا في القرن السابع عشر، يضم المتحف العديد من القطع الأثرية الحجرية والمعدنية، بالإضافة إلى لوحات ونقوش تعود إلى فترة ليتشافي، يُقدّم المتحف لمحةً شاملة عن الأيقونات والفنون والحرف اليدوية الهندوسية والبوذية في نيبال، كما يضم قاعة لعرض صور قديمة لمدينتي لاليتبور وكاتماندو.
جلست على أحد السلالم الحجرية داخل المتحف، أشاهد.. أستمتع.. أراقب المارة.. وأستمع لصوت أجراس المعبد القريب، تتداخل مع أصوات السيارات والدراجات البخارية والتى تنتشر بكثرة، لحظة صمت داخلي وسط الزحام، وكأن الزمن توقف، وسمح لي بأن أتنفس تاريخًا لا يُكتب، بل يُعاش.
سويامبوناث.. حيث يختلط البخور بالدهشة
في اليوم الثاني من رحلتنا إلى نيبال، كانت وجهتنا إلى أحد أقدم المعابد البوذية في البلاد، معبد سويامبوناث، المعروف أيضًا باسم معبد القردة، يقع المعبد فوق على تلة مرتفعة تُشرف على كاتماندو العاصمة النيبالية، وما أن بدأنا في الصعود حتى شعرت بأن خطواتي لا تصعد حجارة، بل تتسلق طبقات من التاريخ، هناك في أعلى القمة ظهرت الستوبا البيضاء الكبيرة، ناصعة تقف في صمت مهيب، تُحيط بها أعلام الصلاة بألوانها الزاهية، ترفرف فوق رؤوسنا كأنها تهمس بأسرار مقدسة، زوار يدورون في صمت حول عجلات الصلاة، تتعالى التراتيل في أجواء روحانية لا تُنسى، وسط الضوء والهدوء، تنفّستُ الهواء المشبع بالبخور، فشعرت أنني أستنشق شيئًا أقدم من الزمان نفسه.
تجولت في المكان وأنا مبهور بجماله وسكينته، وكانت القردة تتحرك بحرية وأمان بين الزوار، في مشهد يعبّر عن التناغم بين الإنسان والطبيعة، الناس هناك لا يطردونها، حيث يُنظر إليها في الثقافة المحلية باحترام شديد، ويُعتقد أن لها قدسية خاصة.
معبد سويامبوناث ليس مجرد موقع أثري، بل هو قلب نابض بالإيمان والتاريخ، يجمع بين روحانية الزمان القديم وسحر الطبيعة الهادئة، ويمنح زائره لحظة تأمل عميقة وسط صخب العالم.
بوخارا.. حين تطير الروح فعلًا
من كاتماندو، اتجهنا غربًا إلى بوخارا، مدينة البحيرة والجبال، كانت بوخارا أكثر من وجهة سياحية، بل تجربة حسية متكاملة، فيها خضت تجربة الطيران بالمظلات، لحظة الإقلاع، شعرت وكأنني أترك كل ما هو ثقيل خلفي.. من الأعلى رأيت بحيرة فيوا تتلألأ كمرآة ضخمة، تحيط بها الجبال بهدوء الملوك، بعد الهبوط، كانت البحيرة نفسها في انتظاري، أبحرنا في مركب صغير وسط المياه الهادئة، والطيور تحلق من حولنا، والهواء محمّل بعطر الأرض.. لحظة خالصة من السكون والجمال.
شيتوان.. في حضن الطبيعة حيث تنبض نيبال بالحياة
في ختام الرحلة، شددنا الرحال جنوبًا إلى قلب الطبيعة البرية، محمية شيتوان، حيث الطبيعة النيبالية تكشف عن وجهها البري الصافي، تركنا المدن والمعابد خلفنا، وخضنا تجربة السفاري وسط الغابات الكثيفة.
ركبنا سيارات السفاري، وانطلقنا في مغامرة أشبه بمشهد من فيلم وثائقي، الطريق كان محاط بالأشجار العملاقة التي تبدو كأنها تخفي أسرارًا من آلاف السنين، وبينما تتحرك السيارة المفتوحة في عمق الأدغال، كانت العيون تبحث، وتترقّب، وتنبهر، رأينا الفيلة البرية تتهادى في هدوء مهيب، وسمعنا زئير نمر البنغال يقطع سكون المكان، ورأينا وحيد القرن يقف في عزلته كرمز لقوة الطبيعة وصلابتها، وعصافير بألوان خرافية بترفرف حوالينا كأنها ترحب بنا بلغتها الخاصة.
«شيتوان» واحدة من أروع التجارب التي قد يحظى بها أي مسافر، وهناك كان لكل لحظة طعم المغامرة، كل شيء كان نقيًّا، حيًّا، الهواء مشبع برائحة الأرض المبللة، وأصوات الطيور تُغني فوقنا معزوفة الغابة، لم يكن الأمر مجرّد مشاهدة حيوانات، بل لقاء مع الحياة كما خُلِقت أول مرة.
المطبخ النيبالي.. نكهات من قلب الهيمالايا
المطبخ النيبالي كان بالنسبة لي تجربة غنية ومختلفة، مليئة بالمفاجآت، من أشهر الأطباق التى تناولتها هناك المومو، وهو زلابية صغيرة محشوة باللحمة، مطهية بالبخار، تقدم بجانب صوص حار أو صلصة ثومية، بالرغم من أن المطبخ النيبالي بسيط لكنه مليء بالحب والكرم، الطعام ليس مجرد طعام هناك، بل هو طقس يومي مليء بالتقاليد والعادات التي تجمع الناس معًا حول مائدة واحدة، كل طبق فيه يحكي قصة، وكل نكهة فيه فيها عمق وأصالة وعراقة.
وجوه نيبال الطيبة في أبسط صورها
الشوارع النيبالية رغم بساطتها، مليئة بالدفء والودّ، تتجوّل في الأسواق، تدخل الأزقة، تشاهد المعابد، لم يكن هناك شعور بالخوف أو القلق، ما زاد إعجابي هو أنني شعرت بالأمان طوال رحلتي، سواء عند التجول نهارًا أو حتى عند العودة إلى الفندق ليلًا، مما جعلني أستمتعبكل لحظة دون أيمخاوف.
الجمال في نيبال لا يقتصر على طبيعتها أو معابدها بل في ناسها.. أهلها طيبون للغاية، يتميّزون بالبساطة والتسامح، ويتعاملون بودّ فطري جميل، من الباعة في الأسواق إلى العاملين في الفندق، حتى المارة في الشوارع، الجميع يرحب بك كأنك واحد منهم وكأنهم يعرفونك من زمن، تشعر بأنك في وطنك، لا غريبًا بينهم، كأن هناك خيطًا غير مرئي يربطني بهم.. ربما هو خيط الإنسانية، أو المحبة، أو الطيبة الصافية، هولاء علموني أن الجمال لا يُقاس بالحجم أو الرفاهية، بل بالصدق والنية الطيبة.
نيبال.. الأرض التي تهمس لروحك
لم تكن نيبال مجرد رحلة، بل كانت تجربة روحية عميقة، عبورًا إلى عالم من الصفاء والدهشة، بلد لا تُبهرُك بضجيج، بل تأسرُك بهدوئها، تأخذك برفق في حضن الجبال، وتترك قلبك يتعلّق بالسماء، نيبال ليست مجرد وجهة سفر، بل تجربة تعيشها بكل حواسك، وتترك في قلبك أثرًا لا يُمحى، ستبقى دائما محفورة في وجداني، كما تُحفر القصص الخالدة في الحجارة القديمة.
