محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث في الجيوسياسية
في زمن الالتباس والانفصال عن الجذور، يبدو أن ما كان يجب أن يكون مصدر فخر واعتزاز، بات لدى البعض عبئًا يحاولون التخلص منه. فها نحن نرى شريحة ليست بالقليلة من أبناء هذا الوطن، وقد انقلبوا على واحدة من أكثر الفترات وطنيّة في التاريخ المصري الحديث، وكأنها لعنة يتنصلون منها، لا محطة مضيئة في مسار أمة كانت تنفض عنها غبار الاستعمار.
من المفارقات أن جلّ من يتصدّرون الهجوم على التجربة الناصرية، هم في حقيقة الأمر من المنتفعين، بشكل مباشر أو غير مباشر، من مكتسباتها. أبناء الفلاحين الذين تحرّروا من سطوة الإقطاع، وأحفاد عمّال التراحيل الذين كانوا يُجلدون في حقول “الخاصّة الملكيّة” تحت أعين نُظّار لا يردعهم قانون ولا ضمير. أولئك الذين انتُزعت كرامتهم لقرون، صاروا الآن يتنكرون لمن رفع عنهم السوط وأعاد لهم إنسانيتهم.
إن الهجوم الممنهج على عبد الناصر ليس بريئًا، ولا هو فقط نتاج قراءة ناقدة لتجربة سياسية. بل هو في جزء كبير منه تعبير عن عقدة طبقية متوارثة، يهرب بها البعض من مواجهة تاريخهم الاجتماعي. فمن الأسهل إدانة المرحلة الناصرية، من الوقوف أمام المرآة ومواجهة الماضي العائلي بكل ما فيه من عبودية الأرض وذل التبعية.
لا أحد يُنكر الأخطاء، فالرجل لم يكن نبيًا، ولا تجربته خالية من الزلل. لكن أن تُختزل تجربة وطنية كبرى في شعارات جوفاء من قبيل "أفقر مصر" و"ضيع الجنيه"، فهذا استخفاف فادح بالعقل والتاريخ. تلك المقولات السطحية التي تُردد كما لو كانت وحيًا، دون بذل أدنى جهد للفهم أو المقارنة أو وضع الأمور في سياقاتها الاقتصادية والسياسية الدولية، ليست سوى نتاج آلة دعائية ضخمة. آلة اشتغلت لعقود، ومُوّلت بسخاء، لا لتصحيح المسار، بل لدفن الحقبة تحت ركام من الشك والكراهية.
والأدهى أن النتيجة المرجوة من تلك الحملة قد تحققت إلى حد بعيد: نجحوا في انتزاع المصريين من ذاكرتهم، وجعلوا الانتماء لمرحلة التحرر الوطني بمثابة سُبّة. غاب السد العالي، وتأميم القناة، وبناء المصانع الثقيلة عن الوعي العام، لتحل محلها أسطوانة "الحريات المصادرة" و"الهزيمة الكبرى"، وكأن الوطن لا يُقاس إلا بصناديق الاقتراع أو سعر الصرف.
ثم يأتي السؤال المشروع: أين هي تجربة من يهاجم؟ وأي مشروع قدّمه هذا الناقد للوطن؟ هل ورث مشروعًا وطنيًا بديلًا؟ هل بنى مصنعًا أو أعاد كرامة؟ أم أنه اكتفى بإلقاء الحجارة من رصيف التنكر والفراغ؟ من السهل جلد من تصدّى للمهمة وحمل العبء، لكن الأصعب أن تُنتج بديلاً، أو أن تكتب سطرًا واحدًا في تاريخ هذا الوطن لا يخجل منه أحفادك.
وهنا لا بد من أن نسأل أيضًا: هل من الشهامة أن يجلس المرء في عوامة، أو خلف تكييف، أو حتى على "مصطبة" في حواري المحروسة، وينبش قبور الماضي، شاهرًا سيف التنظير على تجربة لها ما لها وعليها ما عليها؟ لو فكّر قليلًا، لَعلم أن عبد الناصر لم يعش سوى 52 عامًا، لكنها كانت كافية لأن يكتب تاريخًا، لا يزال يُستدعى في كل ملف شائك، ويُستحضر في كل أزمة قومية. لقد تجاوز أثره عمره بكثير، وسيظل - رغم كل حملات التشويه - الحاضر الغائب في وجدان الأمة، محورًا دائمًا للجدل والحنين والغضب، لأنه باختصار: لم يكن عابرًا.
وللتاريخ، لا بد من التذكير بذلك المشهد الفاصل: حين خرجت الجماهير من المحيط إلى الخليج، من البدو إلى الريف، من العواصم إلى القرى النائية، لتودّع رجلًا عبرَ فيهم عن حلم، عن لحظة كرامة نادرة. لم يكن مشهد جنازته عابرًا، فقد كتب عنه أعداؤه في الغرب قبل أن يتأثر به محبّوه. لقد شُيّع عبد الناصر خارج حدود وطنه الجغرافي والسياسي، وكأن الأرض العربية كلّها فقدت ركنًا من ضميرها الجمعي. فأيّ رجل هذا الذي يشيّعه التاريخ، رغم الحقد، بتلك العظمة؟
لكن ما يثير السخرية والاشمئزاز حقًا، أن نجد في أيامنا هذه شخصيات هرمت، تبحث في أواخر العمر عن أضواء زائفة وشهرة باردة، فلا تجد إلا مهاجمة عبد الناصر وسيرته، وكأنهم لم يجدوا لهم مكانًا في ذاكرة الناس إلا على أكتاف من أفنوا أعمارهم في بناء هذا الوطن. ومن المؤسف أن نرى من كان يومًا دبلوماسيًا رفيعًا، مثل عمرو موسى، وقد استسهل أن يجعل من نبش قبر عبد الناصر تذكرة عودة إلى المشهد.أيُّ رخص هذا؟ وأيُّ خيانة لذاكرة وطنية كان عليه - على الأقل - أن يحترمها بحكم موقعه السابق؟!
ألم يكن الأجدر به أن يراجع مسيرته هو؟ تاريخ طويل من التلون بين معمر القذافي وصدام حسين، ثم نهاية باهتة في أروقة الجامعة العربية التي لم يعرف عنها العرب سوى الخيبات! فهل مَن كان موظفًا في بلاط الأنظمة، صوتًا مبحوحًا بلا مشروع، وشريكًا في صفقات الخذلان، وعاجزًا عن حماية العراق أو ليبيا أو حتى فلسطين، يملك اليوم شرعية أن يحاكم عبد الناصر؟ كفى عبثًا! كفانا نبشًا في قبر الرجل، وكفانا تضليلًا باسم النقد الموضوعي وهو ليس إلا تصفية حسابات شخصية وبيعًا للوهم في أواخر العمر.
إن عمرو موسى ليس سوى رمز حيّ للخيبة العربية: موظفًا في خدمة أنظمة متآكلة، وصوتًا بلا صدى، واسمًا تردّد في قاعات المؤتمرات أكثر مما ترك أثرًا في ضمير الشعوب. ورغم محاولاته اليوم أن يستعيد بريقًا ذابلًا عبر الطعن في عبد الناصر، فلن يذكره الناس إلا بوصفه جزءًا من مرحلة عجزت عن حماية أي قضية عربية، وتواطأت بالصمت أكثر مما فعلت بالفعل. وللتاريخ، سيظل مجرد شاهد باهت على زمن الخيبات.
لسنا بحاجة إلى تمجيد الأصنام، لكننا بحاجة إلى قليل من العدالة التاريخية، وبعضًا من الصدق مع الذات. فلعل المصالحة مع الذاكرة الموجعة أرحم من التورط في جلد الذات، ولعل الاعتراف بفضل من حرّرك، وإن أخطأ، أكثر نبلاً من التشبث بسرابٍ من مجدٍ طبقي مزيّف.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.