يحتل سيد قطب موقعًا مركزيًا فى تاريخ الفكر الإسلامى المعاصر، لا باعتباره كاتبًا وأديبًا فقط، بل كمنظّر أيديولوجى ترك أثرًا بالغًا على الحركات الإسلامية السياسية.
تناولته كتابات متعددة، من بينها كتاب «سيرة التحولات: سيد قطب» للكاتب والصحفى حلمى النمنم، وكتاب «سيد قطب والأصولية الإسلامية» للمؤرخ والأكاديمى شريف يونس.
هذان العملان، على اختلاف منطلقاتهما وأدواتهما، يقدمان قراءتين متباينتين فى المنهج والأولويات، ما يفتح المجال لمقارنة تكشف أثر الخلفية المعرفية على صياغة السرد والتحليل.
أولًا: المنهج والخلفية المعرفية
ينطلق حلمى النمنم من خلفية مهنية راسخة فى الصحافة الثقافية والسياسية، وهو ما ينعكس مباشرة على أسلوب كتابته فى «سيرة التحولات: سيد قطب». فهو يعتمد على تقنيات السرد القصصى التى تُبقى القارئ مشدودًا، مستخدمًا أسلوبًا حيًّا وسلسًا يتجنب الإغراق فى التنظير الأكاديمي.
التزم شريف يونس فى كتابه «سيد قطب والأصولية الإسلامية» بأعراف البحث العلمى من حيث البنية والمنهجية
دراسة مقارنة بين كتاب حلمى النمنم وكتاب شريف يونس
العملان يقدمان قراءتين متباينتين فى المنهج والأولويات الهدف الرئيسى للنمنم تقديم سردية مشوقة وشبه روائية مع قدر من التحليل السياسى
يونس يفكك النصوص ويربط الأفكار بتاريخها الاجتماعى والسياسى
هذه الخلفية تجعله مهتمًا أكثر بتقديم مادة جذابة وقابلة للقراءة من قبل جمهور واسع، بما فى ذلك غير المتخصصين فى الفكر السياسى أو تاريخ الحركات الإسلامية.
كما يولى النمنم أهمية كبيرة للحكايات الشخصية التى تحيط بسيد قطب، سواء تلك المستقاة من شهادات معاصريه أو من مرويات تاريخية وشبه شفوية. فى هذا الإطار، يبرز البعد الإنسانى للشخصية، بما فيه من تناقضات وصراعات داخلية، وهو ما يمنح القارئ شعورًا بالقرب من التجربة الذاتية لقطب.
يعتمد المؤلف على قصص الطفولة، والبعثة إلى أمريكا، والمواجهات مع النظام الناصري، ليرسم خريطة التحولات الفكرية عبر مسار شخصى عاطفى أحيانًا.
إلى جانب ذلك، يظهر تأثير الحس الصحفى فى انتقاء الأحداث المثيرة أو اللحظات الحاسمة التى تكشف عن انعطافات جذرية فى مسيرة قطب.
فهو لا يسعى إلى التغطية الشاملة لكل التفاصيل بقدر ما يركز على المحطات التى تحمل دلالات رمزية أو درامية عالية، مثل تجربته فى السجن أو مواقفه من القومية العربية. هذا الانتقاء يخدم غرضًا سرديًا أكثر منه غرضًا توثيقيًا صارمًا.
ومع أن النمنم يستخدم الوثائق التاريخية والمصادر الصحفية، إلا أن طريقة توظيفه لها أقرب إلى "التحقيق الاستقصائي" منه إلى "الدراسة الأكاديمية". أى أنه يوظف الوثائق كعناصر داعمة للسرد، وليس كمواد لتحليل علمى منضبط.
بذلك، يتضح أن هدفه الرئيسى هو تقديم سردية مشوقة وشبه روائية، مع قدر من التحليل السياسي، بدلًا من إنتاج بحث أكاديمى تقليدي.
أما شريف يونس، فيدخل إلى موضوع سيد قطب من باب مختلف تمامًا، مستندًا إلى تكوين أكاديمى فى التاريخ والفكر السياسي.
كتابه «سيد قطب والأصولية الإسلامية» يلتزم إلى حد كبير بأعراف البحث العلمى من حيث البنية والمنهجية، فهو يبدأ بطرح أسئلة بحثية واضحة، ثم يجيب عنها من خلال تحليل النصوص والوقائع فى سياقها التاريخى والاجتماعي.
هذا الانضباط يجعل قراءته أكثر عمقًا على الصعيد التحليلي، وإن كانت أقل جاذبية سردية بالنسبة للقارئ غير المتخصص.
التحولات الكبرى فى المجتمع المصرى والعالم العربى
يركز يونس على الربط بين مسار قطب الشخصى وبين التحولات الكبرى فى المجتمع المصرى والعالم العربى خلال النصف الأول من القرن العشرين.
فهو لا يرى فى قطب مجرد أديب أو ناشط سياسي، بل يعتبره انعكاسًا لصراعات الهوية، وفشل المشاريع الوطنية، وصعود الإسلام السياسى كبديل أيديولوجى شامل.
من هنا تأتى أهمية السياق فى تحليله، إذ يربط تطور أفكار قطب بالتحولات فى الفكر العربى الحديث، من الليبرالية إلى القومية إلى الأصولية.
فى تعامله مع النصوص القُطبية، يتبنى يونس مقاربة تحليل الخطاب، حيث تُقرأ المؤلفات ليس فقط كمحتوى فكري، بل كخطاب أيديولوجى يسعى إلى صياغة واقع بديل وإعادة تعريف مفاهيم مثل "الجاهلية" و"الحاكمية".
وهذا التحليل يكشف البنية الداخلية للفكر القطبي، بما فيه من عناصر شمولية واستبعادية، ويضعه ضمن تيارات الفكر السياسى العالمى التى تتبنى تصورات كلية للإنسان والمجتمع.
كما يتميز عمل يونس بالاستعانة بأدوات العلوم الاجتماعية، من مفاهيم الدولة الحديثة إلى ديناميات الحركات الاجتماعية، ما يتيح له تقديم تفسير بنيوى للتحولات الفكرية لقطب.
على عكس النمنم، الذى يركز على الصدمات الفردية والدراما الإنسانية، ينظر يونس إلى هذه التحولات باعتبارها نتاجًا لتفاعل طويل بين الأفكار والبنى الاجتماعية، حيث تلعب التجربة الشخصية دورًا، لكنها ليست المحرك الوحيد ولا الأهم.
ثانيًا: صورة سيد قطب
شخصية متقلبة
يقدّم حلمى النمنم سيد قطب كشخصية متقلبة، تتأرجح بين حالات وجدانية وفكرية متناقضة، تبدأ من الأديب الرومانسى المرهف الحس، وتنتهى بالمنظّر الإسلامى الراديكالي.
هذه التقلبات، فى نظر النمنم، ليست مجرد تغيرات فكرية هادئة، بل تحولات جذرية مدفوعة بانفعالات حادة وتجارب صادمة فى حياة قطب.
ويستعين النمنم فى رسم هذه الصورة بأسلوب روائى تقريبًا، حيث يضع القارئ فى قلب المواقف التى مر بها قطب، وكأننا نشاهد مسار التحول عبر مشاهد حيّة.
يركز النمنم على البعد الشخصى لهذه التحولات، معتبرًا أن تجارب قطب العاطفية والفكرية، مثل رحلته إلى الولايات المتحدة، كانت مفصلية فى تشكيل وعيه الجديد.
فى هذه المرحلة، يصور النمنم قطب كأديب مفتون بالغرب من جهة، وناقد له بمرارة من جهة أخرى، حيث تكشف هذه الازدواجية عن بداية الانكسار الداخلى الذى سيقوده لاحقًا نحو خطاب الرفض الكلى للحداثة الغربية.
كما يولى النمنم اهتمامًا بالغًا لعلاقة قطب بالسلطة السياسية فى مصر، خاصة فى عهد عبد الناصر، ويبرز كيف تحولت هذه العلاقة من دعم أو حياد إلى مواجهة مباشرة وصدام دموي.
هذا الصدام، فى رواية النمنم، لم يكن مجرد خلاف سياسي، بل كان نقطة فاصلة دفعت قطب إلى صياغة مشروع أيديولوجى يقوم على القطيعة التامة مع النظام القائم.
ولا يغفل النمنم كذلك علاقة قطب بجماعة الإخوان المسلمين، فيرصد مراحل الانجذاب الأولى حين وجد قطب فى الجماعة بيئة تتبنى خطابه الدينى والاجتماعي، ثم مرحلة الصدام حين بدأ يبلور فكرًا خاصًا يتجاوز حتى الإطار الإخوانى التقليدي.
هنا، يظهر قطب فى سرد النمنم كزعيم فكرى استثنائي، لكن أيضًا كشخصية مأزومة ومتشددة، أفرزتها ضغوط الحياة والظروف التاريخية.
أما شريف يونس، فيرسم صورة أقل فردية وأكثر بنية لسيد قطب، فهو لا يراه مجرد شخص خاض سلسلة من الصدمات والتحولات، بل يعتبره نتاجًا طبيعيًا لتفاعلات فكرية وسياسية واسعة فى مصر والعالم العربى خلال النصف الأول من القرن العشرين.
فى هذا الإطار، تندرج شخصية قطب ضمن مسار طويل من الجدل الفكري، يبدأ بالرومانسية الأدبية وينتهى بالأصولية الإسلامية ذات الطابع الشمولي.
يربط يونس التحولات فى فكر قطب بالانتقال من الانشغال بالقيم الجمالية والأدبية فى بداياته، إلى الانخراط فى مشروع إصلاحى اجتماعى ذى ملامح قومية، ثم أخيرًا إلى صياغة خطاب أيديولوجى يعلن قطيعة جذرية مع الدولة والمجتمع فى صورتهما القائمة.
وبهذا التتبع، تصبح التحولات الفكرية لدى قطب جزءًا من خريطة أشمل للتحولات الفكرية العربية.
يؤكد يونس أن هذه التغيرات ليست انفعالات فردية أو ردود أفعال نفسية فقط، بل هى استجابات فكرية – أيديولوجية لهزائم وإخفاقات المشروع الوطنى والقومي، ولتبدلات المشهد السياسى العالمى فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. من هنا، فإن تطور فكر قطب إلى صياغة مفاهيم مثل "الجاهلية المعاصرة" و"الحاكمية" يبدو عند يونس نتيجة منطقية لبحثه عن بديل شامل يفسر الإخفاقات ويقترح نموذجًا مغايرًا للمجتمع.
ويتعامل يونس مع شخصية قطب باعتبارها حالة دراسية لفهم كيفية تشكّل الفكر الأصولى الحديث، وكيف يمكن لشخص مثقف وأديب أن يتحول إلى أحد أهم منظّرى الإسلام السياسي.
لذلك، لا يحصر التحليل فى التجربة الذاتية لقطب، بل يضعها ضمن شبكة أوسع من العلاقات الفكرية، بما فيها تأثيرات الحركات الإسلامية العالمية، وخبرات الاستعمار، وفشل المشاريع التنموية فى مصر ما بعد الاستقلال.
ثالثًا: تفسير التحول إلى الأصولية
يربط حلمى النمنم التحول الفكرى لسيد قطب نحو الأصولية بمزيج معقد من الصدمات النفسية والسياسية التى تعرض لها خلال حياته. يضع تجربة السجن فى قلب هذا التفسير.
ويؤكد أن سنوات الاعتقال فى عهد عبد الناصر، وما صاحبها من قسوة وتعذيب جسدى ونفسي، لعبت دورًا حاسمًا فى بلورة موقف قطب العدائى الشامل تجاه النظام والدولة والمجتمع.
فى هذا السياق، تصبح تجربة السجن لحظة ميلاد جديدة للفكر القطبي، لكنها ميلاد جاء من رحم المعاناة.
إلى جانب السجن، يبرز النمنم أثر الإحباط العميق الذى أصاب قطب من المشروع القومى الناصري.
فقد كان قطب فى بداياته متعاطفًا مع التوجهات الوطنية والاجتماعية للدولة بعد ثورة يوليو، لكنه سرعان ما أدرك، بحسب رواية النمنم، أن هذا المشروع لا يلبى طموحاته ولا يحقق العدالة الاجتماعية الحقيقية التى كان ينشدها.
هذا الإحباط مثّل نقطة انكسار نفسية وفكرية دفعت قطب إلى إعادة النظر جذريًا فى كل المرجعيات السابقة.
كما يولى النمنم أهمية للبُعد الإنسانى والدرامى فى تفسير التحول، فيصوّر قطب كشخص تعرض لخيانة من النظام الذى كان يأمل أن يتعاون معه، وكمثقف ذاق مرارة العزلة والنبذ، ما ولّد لديه شعورًا بالغربة عن المجتمع بأسره.
هذا الشعور بالغربة تغذى بممارسات القمع، ليتحول فى النهاية إلى قناعة فكرية بأن المجتمع قد انحرف تمامًا عن "الإسلام الحق".
وبذلك، يقدم النمنم التحول إلى الأصولية ليس كمحصلة منطقية لمسار فكرى طويل، بل كاستجابة عاطفية ونفسية لتجارب صادمة متلاحقة، جعلت من سيد قطب إنسانًا جريحًا يبحث عن يقين مطلق، وجعلت من فكره الأصولى حصنًا ضد الخيانة والانكسار.
أما شريف يونس فيتبنى تفسيرًا بنيويًا أكثر منه شخصيًا، إذ يرى أن مسار قطب الفكرى كان منذ بدايته ينطوى على بذور البحث عن نموذج شامل بديل للواقع القائم.
فحتى فى مرحلته الأدبية، كان قطب مشغولًا بقضايا المعنى والقيم الكبرى، وهو انشغال مهّد الطريق لتبنى رؤية شمولية لاحقًا، وإن تغيرت أطرها المرجعية من الرومانسية إلى القومية إلى الأصولية.
يعتبر يونس أن إخفاقات المشاريع الفكرية والسياسية التى تبناها قطب على التوالي– بدءًا من الإصلاح الأدبي، مرورًا بالقومية الاجتماعية، وانتهاءً بالدولة القومية الناصرية– لعبت دورًا تراكميًا فى دفعه نحو صياغة بديل كلى يقوم على القطيعة مع الواقع.
الأصولية، فى هذا التصور، لم تكن انحرافًا مفاجئًا، بل النتيجة الطبيعية لتجربة طويلة مع الفشل المتكرر فى إحداث التغيير المنشود ضمن الأطر القائمة.
فى هذا الإطار، يُنظر إلى تجربة السجن والتعذيب باعتبارها "مسرّعًا" لهذه التحولات، وليست مولدًا وحيدًا لها.
فقد ساعدت هذه التجربة على شحذ الموقف الراديكالي، لكنها جاءت لتؤكد قناعات كانت قد تشكلت جزئيًا قبل الاعتقال.
بذلك، يرفض يونس التفسير الذى يجعل السجن نقطة الانعطاف الوحيدة، ويرى أنه كان مرحلة تكثيف للفكر القطبي، لا مرحلة ولادة فكرية جديدة بالكامل.
ومن خلال هذا المنظور، يتحول فهم التحول إلى الأصولية من كونه استجابة نفسية طارئة إلى كونه عملية فكرية – أيديولوجية ممتدة، تتفاعل فيها التجربة الفردية مع العوامل البنيوية، لتنتج خطابًا يحمل سمات الشمولية والرفض الجذرى للواقع، ويطمح إلى إعادة تشكيله وفق رؤية إيمانية متكاملة.
رابعًا: العلاقة بالخطاب العام
يكتب النمنم بلغة الصحافة الثقافية: مباشرة، قريبة من القارئ العادي، وتوظف عناصر السرد لجذب الانتباه، مشاهد، حوارات، مشاعر، بدلاً من الانزلاق إلى المصطلحات الأكاديمية المجردة.
هذا الأسلوب يجعل كتابه قابلاً للقراءة من جمهور واسع، ويمنحه قدرة على تحويل حدث تاريخى أو موقف فكرى إلى قصة يفهمها القارئ العادى دون الحاجة إلى خلفية نظرية عميقة.
الأساليب البلاغية عنده واضحة: لافتات عاطفية، تراكيب سردية تُبرز اللحظات الحاسمة، وأحيانًا أحكام قيمية مباشرة تُقوّى البعد الدرامى للنص.
النتيجة نص يَحكى قصة شخصية أمام جمهور، وليس نصًا يحلل خطابًا لقرّاء أكاديميين.
هذا يمكّن القارئ العام من تكوين صورة سريعة ومؤثرة عن شخصية مثل سيد قطب.
لكن هذا الأسلوب الصحفى يحمل تبعات منهجية: الاعتماد على الحكايات واللقطات الدرامية قد يؤدى إلى تبسيط التعقيدات، واختزال العمليات البنيوية إلى محطات فردية.
عندما تتصدر اللحظة الدرامية المشهد، قد تُغفل دلائل واستدلالات تحتاج إلى تطويل وتحليل منهجى لتفسير المسارات الفكرية الطويلة.
من ناحية التأثير، يسهِم عمل النمنم فى تشكيل الوعى الشعبى وإثارة النقاش العام؛ يمكن لكتابه أن يؤثر بسرعة فى الخطاب الإعلامى والجدل العام.
لكنه فى الوقت ذاته يعرض المادة للتوظيف السياسى أو الانزلاق إلى الاستنتاجات القيمية السريعة، لأن الطابع الصحفى يجعل النص عرضة للقراءة الانتقائية والتأويل المباشر.
أما نص يونس فيتسم بالالتزام بالمنهجية الأكاديمية: افتراضات بحثية واضحة، بناء حجة تدريجيًا، واستنادًا إلى مفاهيم نظرية ومصادر موثّقة.
هذا الأسلوب ينتج نصًا تجريديًا ومنهجيًا يهدف إلى تفسير الظاهرة فى إطار نظرى أوسع بدلاً من السرد الحركى للأحداث.
القراءة هنا تتطلب قارئًا مهيأ فكريًا لاستيعاب الإطار التحليلى والمصطلحات المستخدمة.
يونس يعتمد على أدوات تحليل الخطاب والتاريخ الفكري؛ يستعمل الإحالات النظرية، تصنيف التيارات، وقراءة النصوص بوصفها خطابًا أيديولوجيًا متكاملًا.
هذا يمنحه قدرة على تفكيك البنى الداخلية للأفكار، وإظهار الروابط البنيوية بين مسارات فكرية تبدو متفرقة عند القارئ السطحي. النتيجة عمل يمكن أن يُستخدم كأساس لمزيد من البحوث أو كمرجع فى الدراسات السياسية والفكرية.
ثمن هذا العمق أنه يقلل من سهولة الوصول: القارئ العام قد يشعر بثقل المصطلحات أو بطول الحجج، وقد يفضّل نصًا أكثر روائية أو أمثلة حية للاقتراب من الموضوع.
كذلك، قد تُقرأ الكتابات الأكاديمية بأنها قليلة الحماسة أو بعيدة عن "النبض" الشعبي، ما يحد من تأثيرها المباشر على النقاش الإعلامى اليومى رغم قوتها فى إطار النقاش العلمى الطويل.
من ناحية الأثر العام، يونس يقدّم مادة قوية لصنع القرار الفكرى والسياسى على المدى المتوسط والطويل: منظّرو السياسات، الباحثون، والمؤسسات التعليمية هم من يستفيدون أكثر من نتاجه.
لكن تأثيره على الرأى العام قصير المدى أقل من تأثير النمنم؛ النص الأكاديمى معرض لأن يختزل أو يُنقل بمعالجات مبسّطة عندما يحاول الإعلام تحويله إلى مادة شعبية.
خامسًا: النقد والموازنة
أ. كتاب حلمى النمنم (منفعة وحدود القراءة الشخصية والدرامية)
فائدة النمنم واضحة ومباشرة: يقدم صورة إنسانية حية لسيد قطب، تسلّط الضوء على النوايا، الانفعالات، والمحطات الدرامية التى مرّ بها.
هذا الجانب يجعل من كتابه مدخلاً ممتازاً للقارئ العام، لأنه يشرح كيف تحوّلت مشاعر وتجارب فردية إلى دافع عملى للتغيير الفكري، ويمنحنا إحساساً بقرب الشخصية من واقعها النفسى والاجتماعي.
الأسلوب الشخصى والدرامى عند النمنم ينجح فى خلق تعاطف وفهم سريع للمسارات الحياتية، لكنه أحيانًا يطغى على التحليل المفاهيمي.
عندما تصبح الحكاية الشخصية هى محور التفسير، قد تُهمَل عوامل بنيوية أو إرثٌ فكرى واجتماعى أوسع أسهم فى إنتاج الأفكار.
منهجيًا، يعتمد النمنم كثيرًا على السرد والوثائق الصحفية والشهادات، وهذه مصادر قيّمة لكنها عرضة للتحوير أو الذاكرة الانتقائية.
النتيجة أن بعض الاستنتاجات قد تبدو مقنعة على مستوى الانطباع لكنها تحتاج تدعيمًا أكثر صرامة حين يُراد استخدامها فى حقل التحليل الأكاديمي.
عمليًا—وبالتالى نقديًا—ينصح باعتبار كتاب النمنم مدخلاً سرديًا لا غنى عنه لمن يبدأ البحث فى شخصية قطب أو يريد مادة جذابة للتأطير العام، لكن ينبغى أن يُستكمل بقراءات نقدية ومنهجية أخرى إن كان الهدف إنتاج تحليل علمى يُبنى عليه.
ب. كتاب شريف يونس (قوة التحليل البنيوى وحدوده الإنسانية)
قوة يونس تكمن فى عمق الإطار التحليلي: يفكك النصوص، يربط الأفكار بتاريخها الاجتماعى والسياسي، ويعرض تطور الفكرة كنتاج لتراكمات تاريخية وبنيوية. هذا يوفّر تفسيرًا أعمق لأسباب الصعود الأيديولوجى ويمكّن الباحث من فهم العلاقة بين النص والسياق.
من ناحية أخرى، يتحوّل هذا العمق أحيانًا إلى تجريد مبالغ فيه، إذ تقلُّ المساحات التى تُعرض فيها التفاصيل الحياتية الدقيقة التى قد تكشف عن دوافع نفسية أو لحظات مفصلية لم تتسنّ للمنهج البنيوى إبرازها.
بالتالى قد يخسر القارئ الإنسانيّ البعد العاطفى الذى يضفى وضوحًا على التحولات.
نقد منهجى مهم: الكتاب يفضّل الاستدلالات البنيوية والإحالات النظرية على السرد الحسي، ما يجعله أقل سهولة للقارئ العام وأحيانًا مكثفًا جدًا بالنسبة لمن يريد أمثلة وحكايات توضيحية.
كذلك قد يزداد خطر اختزال الفرد إلى تمثيل لبنيات أكبر بحيث يفقد الباحثان توازن التفسير بين الفاعل والبنية.
خلاصةً، يونس يقدم مرجعًا ضروريًا لدراسات الفكر والأيديولوجيا ولطلاب العلوم السياسية والتاريخ الفكري، لكنه يستفيد لو أُرفِق بنصوصٍ سردية أو دراسات حالة قصيرة تكسر جمود التجريد وتربط الفرضيات بالخبرة الحياتية لقطب.
ج. الدمج بين الكتابين: تكامل معرفى مع شروط نقدية
الجمع بين النمنم ويونس يتيح رؤية تكاملية: النمنم يضيء البعد الفردى والدرامى الذى يفسّر «لماذا» على مستوى الإنسان، ويونس يموضع هذا «لماذا» داخل شبكة «كيف» التاريخية والبنيوية. القراءة المزدوجة تسمح للقارئ بأن يرى المستويين ولا يظل أسير تفسيرٍ واحدٍ ضيّق.
هذا التكامل مفيد بحثيًا؛ فهو يتيح للباحثين مزج مصادر وأدوات — من شهادات ووثائق إلى تحليل خطاب ونظرية تاريخية — ما يعزّز موثوقية الاستنتاجات ويقلّل احتمال الانزلاق إلى أحكام أحادية الجانب. كما يساعد صانعى السياسات والمختصين على استخلاص استنتاجات عملية أكثر توازنًا.
مع ذلك هناك توتر ممكن: تباين النغمة والأسلوب قد يربك القارئ أو يولّد استنتاجات متضاربة إذا لم تُقَرأ الأعمال نقديًا.
على سبيل المثال، تفسيرُ التحول كصدمة شخصية قد يبدو متعارضًا مع تفسيره كنتيجة بنيوية — لكن الأمر واقعياً: كلا العملين مهمتان ويجب توليفهما بدلًا من تبنى أحدهما حصراً.
المقارنة بين هذين العملين تكشف كيف يمكن لاختلاف المنهج والخلفية أن ينتج سرديات متعددة عن الشخصية نفسها.
سيد قطب، فى النهاية، ليس مجرد سيرة ذاتية أو مشروع فكري؛ بل هو عقدة تلتقى فيها تحولات السياسة والفكر والدين فى مصر القرن العشرين.
قراءة النمنم ويونس معًا لا تمنحنا فقط فهمًا أوسع لقطب، بل تذكّرنا بأن التاريخ الفكرى يُكتب بعيون متعددة، وأن المسافة بين الصحفى والأكاديمى ليست مجرد اختلاف أسلوب، بل اختلاف زاوية الرؤية ذاتها.
