السبت 16/أغسطس/2025 - 05:53 م 8/16/2025 5:53:22 PM
في لحظة تاريخية تتسم بتباطؤ اقتصادي مزمن، وتآكل فعالية النماذج التنموية التقليدية في تحقيق العدالة والاستقرار، يُطلّ التصنيع الزراعي كأحد المفاتيح الغائبة في معادلة التنمية العربية. ليس باعتباره مجرد مشروع لتحسين المحاصيل أو رفع الإنتاجية، بل كأداة لإعادة النظر في كيفية توزيع الموارد، وتوليد القيمة، وربط الاقتصاد بالواقع الاجتماعي للمجتمعات الريفية. ففي عالم عربي تتزايد فيه معدلات البطالة، وتتسع فيه الفجوة بين المناطق الريفية والمناطق الحضرية، يصبح هذا القطاع بمثابة جسر استراتيجي يربط بين الأرض والاقتصاد، وبين السيادة الغذائية والاستقلال التنموي.
في جوهره، يُمثل التصنيع الزراعي محاولة لتفكيك الثنائية التاريخية التي قسّمت المجتمعات العربية بين مركز حضري مهيمن وأطراف ريفية مهمّشة. إنه تصور يُراد له أن يُعيد إدماج الريف في منظومة إنتاجية متكاملة، لا على قاعدة الاستغلال الموسمي أو التصدير الخام، بل بتحويل الموارد الزراعية إلى مدخلات لصناعة غذائية ومعرفية تقود التنمية المحلية وتعيد تعريف الريف باعتباره فاعلاً اقتصادياً ومجتمعياً.
لقد أظهرت التجارب المقارنة في آسيا وأمريكا اللاتينية أن الاستثمار في سلاسل القيمة الزراعية، إلى جانب جدواه الاقتصادية، أصبح ضرورة لبناء نموذج تنموي قادر على الصمود أمام الاختلالات العميقة في البُنى الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، لا يزال العالم العربي عالقًا في مرحلة ما قبل الصناعية فيما يتعلق بالمجال الزراعي، حيث تُصدّر المنتجات خامًا وتُعاد استيرادها بعد معالجتها بقيمة مضافة تُوظف لصالح اقتصادات مستوردة لا تُنتج الغذاء، بل تُعيد تصنيعه.
تشير البيانات الصادرة عن التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2022 إلى أن العجز السنوي في الميزان التجاري الزراعي العربي تجاوز 33 مليار دولار، في حين بلغت فاتورة الواردات الغذائية نحو 132 مليار دولار. وفي المقابل، لا يتجاوز النمو في القيمة المضافة الزراعية 0.6% سنويًا، مقارنةً بمتوسط عالمي يفوق 2.5%. هذه الأرقام تعكس ضعفًا في منظومة الإنتاج، وفشلًا في بناء سياسة تصنيع زراعي تتسم بالاستدامة والسيادة.
إن الرهان على التصنيع الزراعي لا يتوقف عند البعد الاقتصادي، بل يتسع ليشمل البعد الاجتماعي والثقافي والسياسي. فحين يُنشأ مصنع لمعالجة المنتجات الزراعية في منطقة مهمشة، لا يعني ذلك فقط خلق فرص عمل أو تحسين سلاسل التوريد، بل هو فعل يعيد هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويمنح الأطراف موقعًا جديدًا في خريطة التوازن الوطني.
ولعل ما هو أكثر أهمية، أن هذا الشكل من التصنيع لا يُفترض فيه أن يكون امتدادًا لنموذج صناعي تقليدي قائم على التمركز والتمركز المضاد، بل أن يتبنى منطقًا لا مركزيًا، يُوزّع فرص الإنتاج والتراكم على مختلف الجغرافيات، ويُعيد توطين التكنولوجيا، ويخلق ثقافة إنتاجية جديدة تنبثق من السياق المحلي لكنها تنفتح على السوق العالمية.
غير أن الانتقال من الممكن إلى الفعلي يمر عبر اشتراطات واضحة؛ أولها توفر إرادة سياسية ترى في التصنيع الزراعي مشروعًا سياديًا لا مجرد نشاط اقتصادي. وثانيها بناء منظومة تشريعية وتنظيمية تشجع على التوطن الصناعي في الريف، وتُعيد توجيه التمويل العام نحو القطاعات المنتجة لا الاستهلاكية. وثالثها إطلاق سياسة معرفية جديدة تربط بين مراكز البحث الزراعي والاحتياجات الفعلية للمزارعين والمصنعين المحليين.
ولا يمكن لهذا التحوّل أن ينجح دون إعادة التفكير في دور التعليم، من خلال ربط التعليم المهني والتقني باحتياجات الاقتصاد الزراعي، وتوفير مسارات واضحة للاندماج في السوق، إلى جانب استعادة الاعتبار الاجتماعي للعامل الزراعي والمصنّع المحلي. ومن غير الممكن بناء قطاع تنافسي في الأطراف الريفية ما لم يتم ضمان توزيع عادل للبنية التحتية الأساسية، من الطاقة والنقل إلى الإنترنت، بوصفها مدخلات حيوية للاندماج الفعلي في الاقتصاد الوطني.
التصنيع الزراعي ليس بديلاً عن الزراعة التقليدية، ولا يُختزل في كونه مجرد إضافة تقنية لها؛ بل هو مدخل لتأسيس بنية اقتصادية أكثر شمولًا تنطلق من القاعدة المجتمعية، ومشروع يعيد ترتيب أولويات التنمية بما يفتح المجال أمام طاقات الإنتاج المحلي، ويعيد رسم صورة الريف كمساحة واعدة للابتكار والمشاركة، ولإعادة بناء العلاقة بين الدولة ومواطنيها على أسس أكثر عدلاً وفعالية.
وفي ظل تقاطع التحديات المناخية، وضغوط الأسواق العالمية، وتقلص الفوائض الريعية التقليدية، لم يعد التصنيع الزراعي خيارًا قطاعيًا، بل تحول إلى ركيزة مركزية في معادلة الاستقرار الاستراتيجي للدول العربية. فاقتصاد لا ينتج غذاءه، ولا يُعيد دمج ريفه في نسيجه الإنتاجي، سيظل رهينة تقلبات الخارج وضعف الداخل.
إذاً، فالمعضلة لم تعد في جدوى هذا التحول، بل في امتلاك الرؤية المؤسسية القادرة على تحويله إلى واقع. وما لم تُعيد مراكز القرار السياسي والاقتصادي توجيه أولوياتها من مفاهيم وممارسات إدارة الوفرة إلى هندسة الاستدامة، ستظل فجوة الاعتماد قائمة، مهما تنوعت برامج الدعم أو تسارعت خطابات التنمية. التصنيع الزراعي هو الآن معيار لنجاعة القرار السيادي، ومؤشر مبكر على قدرة الدولة على التعامل مع القرن الحادي والعشرين بشروطه الفعلية، لا بالاستمرار في اجترار نماذج وسياسات تُعيد إنتاج الإخفاق داخل قوالب من التكرار الآمن.