في زمن لم تعرف فيه شوارع القاهرة أسماء، ولم تُزيَّن أبواب المنازل بأرقام، كانت زيارة أحد الأقارب أو الأصدقاء مغامرة حقيقية أشبه برحلة بحث في متاهة، قبل عام 1847، كان الباحث عن عنوان شخص ما يعتمد على سؤال المارة والاستدلال بالميادين الكبرى، ليبدأ من هناك رحلة استفسار مضنية، مسلحًا فقط باسم الشخص وعلمه بمكانه التقريبي.
كانت الخطوة الأولى أن يتجه السائل إلى ميدان معروف، ثم يبدأ في طرق الأبواب، مستفسرًا: "هل تعرفون فلان بن فلان؟". الساعات تمر، والشمس تميل نحو المغيب، والجهد ينهك الأقدام. أحيانًا يتبرع بعض أهل المروءة بمشاركته البحث، فيتضاعف الأمل، لكن النتيجة لم تكن مضمونة أبدًا؛ ففرصة الوصول قد تساوي تمامًا فرصة الفشل، ومع حلول الليل ترتفع نسبة الخيبة.

أمر الوالي… بداية التغيير
هذا المشهد اليوم يبدو غريبًا، لكن في منتصف القرن التاسع عشر كان واقعًا يوميًا في "المحروسة". ومع تكرار هذه المعاناة، شعر مجلس تنظيم المدينة بالمسؤولية، فرفع الأمر إلى والي مصر، محمد علي باشا، الذي أصدر في سبتمبر 1847 قرارًا تاريخيًا: تسمية الشوارع وترقيم المنازل.
لم يكن القرار مجرد تنظيم إداري، بل نقلة حضارية في حياة المصريين، بدأ مجلس التنظيم عمله بتقسيم الشوارع، وإعطائها أسماء، ووضع نظام ترقيم دقيق: الأرقام الفردية على جهة اليمين، والأرقام الزوجية على جهة الشمال، مع منح كل شارع لونًا خاصًا لأرقامه لتمييزه عن الشوارع المجاورة.
ألوان وأرقام.. بصمة لكل شارع
فكرة الألوان كانت مبتكرة في وقتها؛ فمثلًا إذا كان شارع "الأمير فلان" يُرقم بلون معين، فإن الشارع الملاصق له يُمنح لونًا آخر. آنذاك، اكتفى المجلس بكتابة الأرقام مباشرة على أبواب المنازل، وهو ما سهل عملية البحث كثيرًا، وقلل من مشاهد الحيرة التي كانت تملأ الطرقات.
بعد نجاح التجربة في القاهرة، امتد المشروع إلى الإسكندرية، ورشيد، ودمياط، والمنصورة. وهكذا بدأت مصر تدخل مرحلة جديدة من النظام العمراني، حيث صار للعنوان هوية واضحة ومحددة.

لوحات معدنية… عهد جديد مع الخديوي عباس حلمي
ومع مرور خمسين عامًا على هذه الخطوة، جاء الخديوي عباس حلمي الثاني ليضيف لمسة جديدة. ففي 27 مارس 1897، أصدر أمرًا بوضع أرقام المنازل على لوحات معدنية تُثبت على الأبواب، بدلًا من كتابتها مباشرة، هذا القرار منح العناوين مظهرًا أكثر وضوحًا وديمومة، وفتح الباب أمام النظام البريدي الحديث، حيث صار ساعي البريد يصل بسهولة إلى أي منزل.
من الفوضى إلى العنوان المحدد
هكذا، تحول البحث عن شخص من مغامرة قد تستغرق يومًا كاملًا إلى مسألة لا تتجاوز دقائق، ولم يعد الوصول إلى العنوان رهنًا بسلسلة طويلة من الأسئلة والاحتمالات، بل صار مسألة قراءة رقم على لوحة، تعرف من خلاله أنك وصلت تمامًا إلى الباب الصحيح.
لقد كانت حكاية ترقيم البيوت في مصر أكثر من مجرد إجراء إداري، كانت خطوة نحو الحداثة، اختصرت المسافات، ووفرت الوقت، وربطت الناس بعناوينهم في سجل الزمن.