الزواج، في جوهره، ميثاق مودة ورحمة.. لكنه حين يُبنى على عاطفة عابرة أو ضغوط اجتماعية، يتحوّل إلى قنبلة زمنية تنفجر ببطء، تنثر شظاياها في النفس والحياة معًا. كثيرون يظنون أن محكمة الأسرة هي محطة النهاية، لكنها في الحقيقة بداية فصل جديد من الإرهاق النفسي والاستنزاف العاطفي.
محكمة الأسرة.. أو كما يسميها البعض "قاعة إعادة التدوير" للعلاقات الفاشلة. هنا تتجمع الحكايات التي بدأت بثقة وابتسامة وانتهت بأوراق تحمل ختم الانفصال. هنا تُسمع همسات الغضب، وأنين الخيبة، وارتطام الأمل بحقائق لم يكن أحد مستعدًا لمواجهتها. على المقاعد الأمامية يجلس “المؤيدون” الذين كانوا يوزعون نصائح «اصبري عشان العيال»، والآن يوزعون نظرات شفقة متعجرفة، بينما في الخلفية يجلس من جاء بدافع الفضول، وكأنهم يحضرون عرضًا مسرحيًا مجانيًا.
المشهد أحيانًا يفوق مشهد الفرح عددًا وحضورًا، لكن الفرق أن هنا لا موسيقى ولا زغاريد، فقط وجوه مثقلة بالخذلان، وعيون تحاول إخفاء الانكسار، وأيادٍ تحمل أوراقًا أثقل من أي حقيبة.
علم النفس التحليلي يصف هذه المأساة بدقة. كارل يونج يرى أن اختيار الشريك أحيانًا يكون انعكاسًا لرغبات غير واعية أو محاولة لسد فراغ داخلي. قد ننجذب لمن يمنحنا شعورًا بالأمان حتى لو كان زائفًا، أو نبحث عن صورة مثالية في مخيلتنا، ثم نصطدم بجدار الواقع. علم النفس الاجتماعي يؤكد أن البدايات غالبًا تقوم على الانبهار والمظاهر، لكن البقاء مرهون بالتوافق العميق في القيم وأنماط التواصل. هذه الفجوة بين الانبهار المؤقت والحياة الفعلية هي التي تدفع كثيرين نحو الانهيار العاطفي ثم نحو النزاعات القانونية.
الأبحاث الحديثة تدعم ذلك. دراسة في Journal of Family Psychology عام 2020 تابعت ثلاثة آلاف زوج وزوجة، ووجدت أن الاختلافات الجذرية في القيم تضاعف احتمال الطلاق بنسبة 37%، وأن من قرروا الزواج خلال أقل من عام من التعارف كانوا أكثر ندمًا على قرارهم بنسبة تجاوزت 40%. أما American Psychological Association فكشفت أن النزاعات الزوجية أمام القضاء ترفع مستويات هرمون الكورتيزول، ما يسبب اضطرابات نوم، وتدهور التركيز، وحتى أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لدى بعض الأطراف.
الضرر النفسي لا يتوقف عند الحكم. تقدير الذات يتآكل تحت وطأة الشعور بالفشل، الثقة بالآخرين تتلاشى، والقلق والاكتئاب يصبحان رفيقين دائمين. بعض الجروح تتحول إلى عدسات مشوهة ترى من خلالها العلاقات المستقبلية، وأحيانًا تمتد آثارها إلى الأبناء الذين يعيدون إنتاج الصراع في حياتهم.
الدرس القاسي الذي تهمس به قاعات محكمة الأسرة هو أن الزواج ليس مناسبة اجتماعية تُزينها الصور والهاشتاجات، بل هو استثمار طويل الأمد في الاستقرار النفسي. التريث، ومعرفة الذات، وفهم الطرف الآخر بعمق، ليست رفاهية، بل ضرورة لحماية الروح من معارك قد تدوم سنوات. فالزواج الخاطئ لا ينتهي عند التوقيع على ورقة الطلاق، بل يبدأ من هناك فصل جديد من المعاناة، قد يحتاج عمرًا كاملًا ليتوقف صداه.