غنى بنفسه ١٢ أغنية ووضع ٣٦ قطعة موسيقية كانت تبثها الإذاعة المصرية لمدة ساعتين مرتين فى الأسبوع
العربى الوحيد الذى نال جائزة اليونسكو العالمية.. وحيثيات الجائزة تؤكد: لم يتأثر بأى موسيقى أجنبية واستطاع بموسيقاه التأثير على منطقة لها تاريخها الحضارى
"عظيم" فى خيمة الإبداع، عشقت أصابعه الأوتار وعرف سر العود حتى أصبح من سحرته، حفر اسمه فى عالم الموسيقى كواحد من أعظم مبدعى الموسيقى العربية، ذلك الذى وصل بألحانه إلى عمق النفس البشرية وسكنها فلا يُمكن لأذن أن تخطئ موسيقاه.
رياض السنباطى صاحب الصوت الرخيم والعود الصداح واللحن المميز والمتوج ملكًا لتلحين القصيدة العربية سواء كانت دينية أو وطنية أو عاطفية، فاستحق أن تصفه أم كلثوم بـ"العبقري".
ومن أهم الذين حفروا اسمهم بجدارة فى تاريخ الموسيقى العربية، فهو صاحب الرصيد الأكبر والأهم فى تاريخ الغناء العربى، وبلغت عدد مؤلفاته الغنائية ٥٣٩ عملًا فى الأوبرا العربية والأوبريت والاسكتش والديالوج والمونولوج والأغنية السينمائية والدينية والقصيدة والطقطوقة والموال، وكان من أوائل الموسيقين الذين أدخلوا آلة العود مع الأوركسترا.
وُلد رياض السنباطى لأب مطرب وعازف عود هو الشيخ محمد السنباطي، الذى علمه الأدوار والموشحات القديمة، كما رافقه فى سهراته التى كان يحييها فى الريف المصري.

وحسب الناقد والمؤرخ الموسيقى فكتور سحاب فى كتابه «السبعة الكبار فى الموسيقى العربية»: «كان والده مقرئًا يغنى فى الموالد والأفراح والأعياد الدينية فى القرى، وتفتحت أذن رياض عليه يعزف العود ويغنى، ولما بلغ التاسعة ضبطه والده عند جارهم النجار هاربا من المدرسة يضرب على العود، ويغنى أغنية الصهبجية «ناح الحمام والقمرى على الغصونى» فطرب لصوته، وأخذ يصطحبه معه إلى الأفراح والموالد فى القرى، بعد أن استقر فى مدينة المنصورة».
تتلمذ السنباطى على يد أساتذة كبار مثل الشيخ زكريا أحمد، والمغنيين أمثال عبدالحى حلمي، يوسف المنيلاوي، سيد الصفطي، وأبو العلا محمد حيث تعلم منهم دون أن يراهم من خلال الإسطوانات والفونوجراف الذى ظهر فى ١٩٠٤م وأحدث نقلة نوعية حيث ربط عالم المدينة بعالم الأرياف.
أصيب رياض السنباطى بمرض فى عينه وهو فى التاسعة من عمره، وحال المرض بينه وبين الاستمرار فى الدراسة ما دفع بوالده إلى التركيز على تعليمه قواعد الموسيقى وإيقاعاتها، وأظهر رياض السنباطى استجابة سريعة وبراعة ملحوظة، فاستطاع أن يؤدى بنفسه وصلات غنائية كاملة، وأصبح هو نجم الفرقة ومطربها الأول وعرف باسم "بلبل المنصورة"، واستمع الشيخ سيد درويش لرياض فأعجب به إعجابًا شديدًا وأراد أن يصطحبه إلى الإسكندرية لتتاح له فرص أفضل، ولكن والده رفض العرض بسبب اعتماده عليه بدرجة كبيرة فى فرقته.
فى السابعة عشرة من عمره حين مضى إلى القاهرة واستقر فيها، ودخل معهد الموسيقى العربية تلميذًا، التقى هناك أمير الشعراء أحمد شوقى والمطرب الشهير آنذاك محمد عبدالوهاب، وكان أول لحن وضعه ليغنيه قصيدة شاعر المنصورة الكبير على محمود طه «يا مشرق البسمات أضىء سماء حياتى».
وانطلقت مسيرته الفنية وعمل مع العديد من المطربين الكبار وفى مقدمتهم كوكب الشرق أم كلثوم، التى غنت أعظم أغانيها من ألحانه.
ولعل من أهم الأسباب التى ميزت رياض السنباطى قدرته الدائمة على التجديد، حيث أنه كان سابقًا لعصره، كما كان له قدرة كبيرة على دمج التقاليد الموسيقية الشرقية مع التطورات الحديثة، ولا يعتبر غريبًا عليه أن تظل ألحانه خالدة إلى الآن وتصلح لكل الأجيال مهما تطورت الموسيقى وظهرت أنواع جديدة، حيث كانت تلك الألحان تمثل لسان حال الوجدان العربى بأسره.
تاريخ الموسيقى العربية مليء بالثنائيات الفنية الخالدة التى شكلت وجدان الأمة، ولكن لا يمكن لأى ثنائى أن يضاهى تأثير وعمق العلاقة التى جمعت بين كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال رياض السنباطي.
كانت علاقتهما أكثر من مجرد تعاون فني، بل كانت رحلة إبداعية استمرت لعقود وأنتجت روائع لا تزال تتربع على عرش الأغنية العربية.
صداقة بدأت من النوتة الموسيقية

بدأت قصة أم كلثوم والسنباطى فى وقت مبكر من مسيرة كلٍ منهما، حيث كانت أم كلثوم قد بدأت فى فرض وجودها كصوت استثنائي، بينما كان السنباطى شابًا موهوبًا قادمًا من المنصورة، يمتلك حسًا موسيقيًا فريدًا وثقافة موسيقية عميقة، ولم يكن لقاؤهما الأول مجرد صدفة، بل كان نتيجة إعجاب متبادل.
فى البداية، عمل السنباطى كعازف عود فى فرقة أم كلثوم، وكان الجميع يلاحظ موهبته الفذة وقدرته على الإضافة إلى الأغانى بتوزيعات مبتكرة..هذا القرب الفنى سمح لهما بفهم بعضهما البعض بشكل أعمق، واكتشاف الكيمياء الفنية التى ستجمعهما لاحقًا.
بعد فترة قررت أم كلثوم أن تستعين بالسنباطى كملحن، مدركة أن لديه قدرة استثنائية على ترجمة مشاعرها وأحاسيسها إلى نغمات، فكانت أولى أغانيهما معًا هى «على عينى الهجر» عام ١٩٣٥، والتى كانت بمثابة إعلان عن ميلاد ثنائى فنى من الطراز الرفيع.
حوار بين الصوت واللحن
ما ميز العلاقة الفنية بين أم كلثوم والسنباطى هو أنها لم تكن علاقة بين ملحن ومغنية فقط، بل كان حوارًا فنيًا مستمرًا.. كان السنباطى يلحن وهو يستحضر صوت أم كلثوم فى خياله، مدركًا تمامًا قدراتها الصوتية الهائلة، وعمقها فى التعبير، فكان يمنحها مساحات واسعة للإبداع والتطريب، مما يسمح لها بالتحليق بصوتها فى آفاق غير مسبوقة.
من جانبها، كانت أم كلثوم مصدر إلهام دائم للسنباطى.. كانت تثق تمامًا فى موهبته وتسمح له بالتجريب، وهو ما أدى إلى ظهور ألحان معقدة ومبهرة، وكانت تعرف كيف تمنح كل نوتة حقها، وكيف تعيش الكلمات لتصل إلى قلب كل مستمع، كانت هذه الشراكة أساسًا لثورة فى الموسيقى العربية، حيث انتقلت الأغنية من كونها مجرد لحن سهل إلى عمل فنى متكامل يجمع بين الشعر الراقي، واللحن المعقد، والأداء الصوتى الأسطوري.
روائع خالدة للسنباطى مع أم كلثوم

قائمة الأعمال المشتركة بين أم كلثوم والسنباطى هى بمثابة متحف من الجواهر الفنية التى أثرت المكتبة الموسيقية العربية.. ومن أبرز هذه الأعمال:
رباعيات الخيام
عمل فنى استثنائى آخر، حيث قام السنباطى بوضع ألحان على ترجمة أحمد رامى لرباعيات عمر الخيام، كانت تحديًا كبيرًا، لكن السنباطى نجح فى خلق حالة من التأمل والفلسفة فى الأغنية، وقدمت أم كلثوم أداءً صوتيًا يجمع بين العمق والجمال.
نسمة الجنوب
أغنية "أغار من نسمة الجنوب" رائعة من كلمات الشاعر أحمد رامي. وتصف القصيدة مشاعر الحب الشديد والغَيرة التى يشعر بها المحب تجاه الأشياء التى تلامس حبيبه، مثل نسمة الجنوب والشمس والزهر والنهر.
تبدأ الأغنية بالقول: "أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبى وأَحْسِدُ الزَهْر حينَ يَهفو على شَفا جَدْوَلٍ لَعوبِ".. ويستمر الشاعر فى التعبير عن رغبته فى أن يكون هو كل ما يلامس الحبيب ويراقبه، بل ويتمنى أن يصبح الزهرة أو الجدول ليحظى بقرب منه.
أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي
وأَحْسِدُ الزَهْر حينَ يَهفو على شَفا جَدْوَلٍ لَعوبِ
وأغْبِط النَهرَ حينَ يَجرى على بِساطِ الجنى الخَصيبِ
فَقَدْ تَرى فيهِما جَمالًا يَروقُ عَينَيْكَ يا حبيبي
يا لَيتَنى زَهْرَةٌ تَساقَتْ مع النَدى قُبْلَة الحبيبِ
ولَيتَنى جَدوَلٌ تَهادىِ ما بَيْنَ زَهْرٍ وبينَ طيبِ
وذاكَ أنى أَراكَ تَرنو للزَهرِ فى غُصنِهِ الرَطيبِ
وتَعْشَقُ النَهْرَ حينَ يَجْرى مُرَجِعَ اللحْنِ والضُروبِ
وأَنَنى مِنْ هُيامِ قَلبى وَشِدَةِ الوَجْدِ واللهيبِ
أغارُ من نَسْمَةِ الجَنوبِ على مُحيَّاكَ يا حبيبي
عودت عيني
أغنية عاطفية بامتياز، تظهر فيها قدرة السنباطى على خلق لحن شجى ومعبر، كانت أم كلثوم تتألق فى هذا النوع من الأغاني، حيث كانت تنقل إحساس الحب والوفاء بصدق بالغ.
يا ظالمني
تُعتبر من الأغانى الكلاسيكية التى لا تزال تُسمع حتى اليوم، فيها تظهر قوة صوت أم كلثوم، وقدرتها على إتقان المقامات الموسيقية المختلفة التى كان السنباطى يلحنها ببراعة.
الأطلال
وهى من كلاسيكيات الموسيقى العربية، وتُعتبر تحفة فنية لا مثيل لها، لحنها السنباطى عام ١٩٦٦، وهى مقاطع من قصيدتين للشاعر إبراهيم ناجي، هما "الأطلال" و"الوداع"، وتمثل قمة التناغم بين الصوت واللحن، واعتبرها العديد من النقاد تاج الأغنية العربية، إذ استطاع السنباطى أن يترجم حالة الحزن والفقدان والأمل فى الأغنية إلى نغمات خالدة، وقدمت أم كلثوم فيها أداءً لا يُنسى.
خلافها مع السنباطى على «القفلة»

ونعود مجددا إلى "ثومة" والأطلال، التى غنتها بعد رحيل "ناجي" وقد غاب العود عن هذا اللحن، لأن محمد القصبجى كان قد رحل هو الآخر.ومما ذُكر فى كواليس الإعداد للأغنية، أنه أثناء تدريب أم كلثوم عليها طلبت من الموسيقار رياض السنباطى تغيير القفلة فى المقطع الأخير من العالية إلى الهادئة، فاختلف معها السنباطى وتوقفت الأطلال لمدة ٤ سنوات، بعد أن رفض كلاهما التنازل عن رأيه حتى توسط بعض الأصدقاء ووافقت أم كلثوم على رأى السنباطي.. وخرجت الأطلال للنور وتفاعل معها الجمهور وكُتبت ضمن قصائد أم كلثوم التاريخية التى خلدت اسم إبراهيم ناجى بجوار كوكب الشرق.
يا حبيبى كل شيء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعدما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته
لا تقل شئنا فإن الحظ شاء
فإن «الحق» شاء فإن الله شاء
الكثير من الأغانى جمعتهما فى شراكة استمرت لأكثر من أربعين عامًا، أنتجت خلالها أكثر من ٩٠ أغنية، بعضها يُعتبر من أهم ما قُدم فى تاريخ الموسيقى العربية، فلم تكن مجرد أغانٍ، بل كانت دروسًا فى الفن والحب والصداقة والأمل.
كانت وفاة أم كلثوم فى عام ١٩٧٥ بمثابة نهاية لهذه العلاقة الفنية، لكن إرثهما المشترك لا يزال حيًا ويُدرس حتى اليوم. لقد مثلت ثنائية أم كلثوم والسنباطى قصة حب حقيقية بين فنانين أخلصا لفنهما، وتركا لنا كنزًا موسيقيًا لا يفنى.. لقد كانا معًا روحًا واحدة فى جسدين، صوتًا يغنى ولحنًا يتكلم.
لكن رياض السنباطى لم يجد بعد أم كلثوم صوتًا يستطيع أن يترجم ألحانه بنفس العمق والجمال، وظل وفيًا لروحها الفنية.
وبالرغم من كلثومياته إلا أنه لحن أكثر من ٩٧ أغنية لفنانين آخرين أبرزهم منيرة المهدية، وفتحية أحمد، وصالح عبد الحي، ومحمد عبد المطلب، وعبد الغنى السيد، وأسمهان، وهدى سلطان، وفايزة أحمد، وسعاد محمد، ووردة، ونجاة، وعزيزة جلال، كما غنى بنفسه ١٢ أغنية، إلى جانب ٣٦ قطعة موسيقية كانت تبثها الإذاعة المصرية فى بداياتها لمدة ساعتين مرتين فى الأسبوع أشهرها معزوفة «رقصة شنغهاى» و«عرائس البحر» و«إليها» و«رحلة الفلك».
ولأن إبداعه الموسيقى طغى على أمورٍ كثيرة، فلعل قليلين من يعرفون أن السنباطى كانت له تجربة يتيمة فى التمثيل، وذلك فى فيلم "حبيب قلبي" تأليف يوسف جوهر، إخراج حلمى رفلة، وشاركته البطولة هدى سلطان، ومحسن سرحان، وفردوس محمد.
جوائز عديدة حصل عليها السنباطى

يعد السنباطى هو الموسيقى العربى الوحيد الذى نال جائزة اليونسكو العالمية عام ١٩٧٧، بإعتباره "الموسيقى المصرى الوحيد الذى لم يتأثر بأية موسيقى أجنبية وأنه استطاع بموسيقاه التأثير على منطقة لها تاريخها الحضاري" بحسب حيثيات الجائزة، وكان أحد خمسة موسيقيين عالميين فقط نالوا هذه الجائزة على فترات متفاوتة. وكانت هذه الجائزة هى التتويج لمجموعة آخرى من الجوائز من بينها وسام الفنون من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام ١٩٦٤، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى من الرئيس محمد أنور السادات.
وعلى ذكر هذه الأوسمة، يمكن القول أن السنباطى كان من أشد مؤيدى ثورة ثورة ٢٣ يوليو حتى أنه تطوع فى الحرس القومى فى بدايات الثورة، وتدرب على حمل السلاح واستعماله، وشارك بألحانه فى دعمها بألحان خالدة مثل "مصر التى فى خاطري"، و"طوف وشوف"، و"ثوار لآخر مدى". كما لحن أغنية "رسالة إلى جمال عبد الناصر" بعد وفاة عبدالناصر، وهى من كلمات نزار قباني، كذلك قدم السنباطى أهم أغانيها الدينية مثل "ولد الهدى" عام ١٩٤٤، و"نهج البردة" عام ١٩٤٦ قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى الشهيرة فى مديح النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الجوائز الأخرى التى حصل عليها جائزة الريادة الفنية من جمعية كتاب ونقاد السينما عام ١٩٧٧، وجائزة الدولة التقديرية فى الفنون والموسيقى عام ١٩٨٠، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون لدوره الكبير فى الحفاظ على الموسيقي. وفى صباح يوم ٩ سبتمبر ١٩٨١، داهمته نوبة قلبية حادة زادها الربو المصاب به، واستدعى طبيبه الخاص، وفى أول الليل داهمته نوبة مشابهة فأسلم الروح، ودفن فى اليوم التالى ١٠ سبتمبر ليرحل جسده ويبقى فنه وإبداعه.





