ثمانون عامًا مرت على أول ضربة نووية في تاريخ البشرية، حين أُلقيت القنبلة الذرية "ليتل بوي" على مدينة هيروشيما اليابانية صباح السادس من أغسطس عام 1945، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في التاريخ الحديث، ويفتح باب الرعب النووي على مصراعيه.
تلك اللحظة لم تكن فقط نهاية الحرب العالمية الثانية، بل بداية لصراع من نوع جديد، صراع يعتمد على التلويح بالرؤوس النووية بدلًا من البنادق، والردع بدلًا من الاجتياح، والأنظمة الآلية بدلًا من القرار البشري.
اليوم، والعالم يحيي الذكرى الـ80 لتلك المأساة، يطرح السؤال نفسه من جديد: هل يمكن أن يتكرر سيناريو هيروشيما في عالم تتسابق فيه القوى الكبرى نحو تطوير ترساناتها النووية؟
«هيروشيما» مدينة أحرقتها شمس من صنع البشر
في تمام الساعة 8:15 صباحًا، انقلبت السماء فوق هيروشيما إلى كرة من اللهب قنبلة واحدة أسقطتها القاذفة الأمريكية "إينولا جاي" أدت إلى مقتل أكثر من 140 ألف شخص في أقل من دقيقة ، لم يكن الضحايا جنودًا، بل مدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء.
لم تنتهِ المأساة هنا، إذ تبعتها بعد ثلاثة أيام قنبلة أخرى على مدينة ناجازاكي، ليُجبر الإمبراطور الياباني على الاستسلام، وتُطوى بذلك صفحة الحرب العالمية الثانية ، لكن ما لم يُطوَ هو الجرح الذي تركته القنبلة، لا في جسد اليابان فقط، بل في ضمير العالم.
سباق التسلح النووي.. من الردع إلى الفناء
مع انتهاء الحرب، دخلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق في سباق محموم نحو امتلاك وتطوير الأسلحة النووية ، تحوّلت القنابل من طراز "ليتل بوي" إلى رؤوس حرارية قادرة على تدمير قارات بأكملها.
اليوم، تُقدر الترسانة النووية العالمية بما يزيد عن 12 ألف رأس نووي، تمتلك روسيا والولايات المتحدة وحدهما أكثر من 90% منها ومع دخول قوى جديدة إلى النادي النووي، مثل الهند وباكستان وكوريا الشمالية، يتعقّد المشهد أكثر.
اليد الميتة.. الرد النووي بعد الفناء
من بين أخطر التطورات التي أفرزتها الحرب الباردة، كان نظام "اليد الميتة" (Dead Hand)، الذي يُعرف أيضًا باسم "بيريميتر"، وهو نظام روسي أوتوماتيكي للرد النووي.
تم تصميم هذا النظام ليقوم بإطلاق ضربة نووية شاملة على أي دولة تعتدي على روسيا، حتى لو تم القضاء على القيادة السياسية والعسكرية فيها بالكامل ، النظام لا يعتمد فقط على البشر، بل على مجسات ترصد الضغط الجوي والإشعاعات وتتحرك عند التأكد من وقوع هجوم نووي.
بهذا المفهوم، قد يبدأ يوم القيامة النووي دون أن يصدر إنسان واحد أمر الإطلاق.
في المقابل، تعتمد الولايات المتحدة على منظومة "الردع النووي" القائمة على إبقاء جزء من ترسانتها في حالة جاهزية دائمة، وتُرسل إشارات مستمرة للخصوم بأنها سترد بشكل مدمر إذا تعرضت لهجوم.
عودة الأشباح النووية.. ومخاوف من التكرار
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا، والتنافس الصيني-الأمريكي، والتجارب النووية الكورية الشمالية، تعود المخاوف من أن يستخدم أحد الأطراف القنبلة النووية كسلاح تكتيكي أو تهديد مباشر.
الانسحابات المتكررة من المعاهدات الدولية مثل معاهدة الحد من الأسلحة النووية (INF)، وتعليق بعض الالتزامات في اتفاقيات "ستارت"، زادت من هشاشة النظام العالمي الرادع.
ومع تطور الذكاء الاصطناعي، دخل العالم مرحلة جديدة، إذ باتت بعض أنظمة السلاح تعتمد على خوارزميات تحليل البيانات لتحديد الأهداف، ما يثير تساؤلات أخلاقية ومخاوف أمنية بشأن قرارات القتل النووي.
دروس الماضي وصوت الناجين
ما تزال شهادات "هيباكوشا"، وهم الناجون من القنابل الذرية، تُروى في المدارس والمتاحف، لتذكير العالم بأن السلاح النووي ليس قوة بل لعنة.
يروي البعض أنهم شاهدوا أطفالًا تبخروا، وأجسادًا سارت بلا جلد، ومدنًا أصبحت رمادًا في لحظة ،ويصف آخرون شعور العجز الكامل حين يتعذر عليك إنقاذ من تحب من نار لا تُطفأ.
اليابان.. أمة من رماد إلى رمزية السلام
رغم ما عانته لم تتحول اليابان إلى دولة ناقمة بل اتخذت من السلام نهجًا ، دستورها ينص على رفض الحرب كأداة لحل النزاعات ، وتحولت مدن مثل هيروشيما إلى رموز عالمية للسلام.
وفي كل عام، يُقام احتفال في حديقة السلام التذكارية بهيروشيما، يُضاء فيه فانوس لكل روح فقدت في ذلك اليوم. يتلو فيه أطفال رسائل سلام بلغات العالم، ويقرع جرس الضحايا في لحظة الصمت.
المستقبل.. بين الزر الأحمر والعقل البشري
في الذكرى الثمانين، لم يعد السلاح النووي مجرد سلاح دمار شامل، بل أداة ضغط سياسية ومقامرة بمصير البشرية.
إن استمرار وجود آلاف الرؤوس النووية، وتطور تقنيات الإطلاق والرد، وتحول بعض القرارات إلى أنظمة آلية، يجعل العالم يعيش على حافة خطر دائم.
لكن الأمل يبقى في وعي الشعوب، وفي قوة الدبلوماسية، وفي ذاكرة الماضي التي يجب ألا تُمحى.
هيروشيما لم تكن فقط مدينة دُمّرت، بل جرس إنذار لا يجب أن يصمت.