في الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى ترسيخ وجودها الاستراتيجي على امتداد البحر الأحمر، برزت جيبوتي — الدولة الصغيرة الواقعة عند مدخل مضيق باب المندب — كنقطة محورية في سباق النفوذ بين القوى العظمى، وفقًا لتحليل نشره المجلس الأطلسي، ومقره واشنطن.
رغم أن مساحة جيبوتي لا تتجاوز ولاية نيوجيرسي الأمريكية، فإنها تستضيف اليوم ما لا يقل عن ثماني قواعد عسكرية أجنبية، من بينها قواعد للولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان.
ويعزى هذا التركيز العسكري إلى الموقع الاستراتيجي للبلاد على الممر البحري الحاسم الذي يمر عبره نحو 10% إلى 12% من حركة التجارة العالمية سنويًا.
الصين تتمدد عسكريًا واقتصاديًا في العمق الجيبوتي
بدأت الصين تكثف حضورها في جيبوتي منذ عام 2017، حين أنشأت أول قاعدة عسكرية خارجية لها هناك.
ورغم التأكيدات الصينية الرسمية بأن الهدف من القاعدة هو تقديم الدعم اللوجستي، فإن قربها — على بُعد سبعة أميال فقط من القاعدة الأمريكية "معسكر ليمونير" — أثار قلقًا واسعًا في واشنطن.
وقد عمّقت بكين وجودها من خلال تدريبات عسكرية مشتركة مع جيش الاحتلال الجيبوتي، إلى جانب توسع شركاتها المملوكة للدولة في قطاعات البنية التحتية الحيوية، وعلى رأسها شركة "مجموعة التجار الصينيين" التي تشارك في تشغيل ميناء دوراليه متعدد الأغراض.
كما أفادت تقارير بأن بكين طلبت من الحكومة الجيبوتية فرض قيود على الطيران العسكري الأمريكي فوق القاعدة الصينية، في مؤشر على تنامي نفوذها في البلاد.
استراتيجية صينية أوسع على امتداد البحر الأحمر
التحركات الصينية في جيبوتي لا تنفصل عن توجه أوسع يشمل ضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية في دول المنطقة المطلة على البحر الأحمر. وتشمل تلك الاستثمارات موانئ ومصانع ومشاريع للطاقة، لا سيما في مصر، حيث تملك الصين حصصًا في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ووقعت مؤخرًا صفقة بقيمة 6.75 مليار دولار مع شركة الطاقة الصينية (CEEC) لتطوير مشروعات الأمونيا والهيدروجين الأخضر.
تراجع أمريكي وتضييق على القوات في معسكر ليمونير
في المقابل، يواجه الوجود الأمريكي في جيبوتي تحديات متعددة. فعلى الرغم من العلاقة التاريخية مع الحكومة الجيبوتية، فإن مستوى النشاط الأمريكي يبدو باهتًا مقارنة بنشاط بكين المتزايد.
بيانات التجارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين واشنطن وجيبوتي بلغ العام الماضي 185.1 مليون دولار، في حين تجاوز حجم التجارة بين بكين وجيبوتي 3 مليارات دولار.
كما تخضع القوات الأمريكية المتمركزة في معسكر ليمونير لقيود مشددة عند مغادرة القاعدة، وتُمنع من دخول أجزاء واسعة من العاصمة، ما يقلل بشكل كبير من التفاعل المباشر مع السكان المحليين.
في المقابل، يتمتع الجنود الصينيون بحرية حركة أوسع ويساهمون في مبادرات دبلوماسية عامة مثل تنظيم بطولات رياضية.
في مواجهة تنامي النفوذ الصيني، يقترح المجلس الأطلسي حلًا بديلًا يتمثل في تشكيل ما يُعرف بـ"مثلث النفوذ" — تحالف منسق بين الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، لتعزيز المصالح الاستراتيجية المشتركة في جيبوتي والمنطقة الأوسع.
وبينما تمتلك واشنطن علاقات راسخة مع جيبوتي، فإنها مهددة بالتراجع إذا لم تُواكب الديناميكية الصينية النشطة.
كما أن مستوى الانخراط الميداني الأمريكي الحالي يترك فراغًا قد تملؤه قوى أخرى أكثر استعدادًا للانخراط الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يدفع إلى ضرورة إعادة تقييم استراتيجية واشنطن في هذه البقعة شديدة الحساسية من خريطة النفوذ العالمي.